فصل


المسلك الثالث: إن «قريب» في الآية من باب حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه مع الالتفات إلى المحذوف، فكأنه قال: إن مكان الرحمة قريب من المحسنين، ثم حذف المكان وأعطى الرحمة إعرابه وتذكيره. ومن ذلك قول حسان:
يسقون من ورد البريص عليهم بردى يصفق بالرحيق السلسل
فقال: «يصفق» بالياء و «بردى» هي مؤنث لأنه أراد ماء بردى. ومنه
قول النبي صلّى الله عليه وسلّم وقد أخذ بيديه ذهبا وحريرا فقال: «هذان حرام على ذكور أمتي»
فقال: «حرام» بالإفراد والمخبر عنه مثنى، كأنه قال: استعمال هذين حرام. وهذا المسلك ضعيف جدا لأن حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه لا يسوغ ادعاؤه مطلقا وإلا لا لتلبس الخطاب وفسد التفاهم وتعطلت الأدلة. إذ ما من لفظ أمر أو نهي أو خبر متضمن مأمورا به ومنهيا عنه ومخبرا إلا ويمكن على هذا أن يقدر له لفظ مضاف، يخرجه عن تعلق الأمر والنهي والخبرية، فيقول الملحد في قوله: وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ أي معرفة حج البيت وكُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ أي معرفة الصيام. وإذا فتح هذا الباب فسد التخاطب وتعطلت الأدلة، وإنما يضمر المضاف حيث يتعين ولا يصح الكلام إلا بتقديره للضرورة، كما إذا قيل: أكلت الشاة فإن المفهوم من ذلك أكلت لحمها فحذف المضاف لا يلبس، وكذلك إذا قلت أكل فلان كد فلان إذا أكل ماله، فإن المفهوم أكل ثمرة كده فحذف المضاف هنا لا يلبس ونظائره كثيرة.
وليس منه وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ وإن كان أكثر الأصوليين يمثلون به فإن القرية اسم للسكان في مسكن مجتمع فإنما تطلق القرية باعتبار الأمرين كالكأس لما فيه من الشراب، والذنوب للدلو الملآن ماء والخوان للمائدة إذا كان عليها طعام ونظائره.


الصفحة التالية
Icon