ثم حذرهم وأنذرهم بألا يغتروا بكثرة العدد والعدد فلهم مما يشاهدون عبرة فقال:
(قَدْ كانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتا، فِئَةٌ تُقاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرى كافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ) أي قل لأولئك اليهود الذين غرتهم أموالهم واعتروا بأولادهم وأنصارهم: لا تغرنكم كثرة العدد، ولا المال والولد، فليس هذا سبيل النصر والغلب، فالحوادث التي تجرى في الكون أعظم دليل على تفنيد ما تدّعون.
انظروا إلى الفئتين اللتين التقتا يوم بدر، فئة قليلة من المؤمنين تقاتل في سبيل الله كتب لها الفوز والغلب على الفئة الكثيرة من المشركين.
وفي هذا عبرة أيّما عبرة لذوى البصائر السليمة التي استعملت العقول فيما خلقت لأجله من التأمل في الأمور والاستفادة منها، لا لمثل من نعتهم الله بقوله: «لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِها، وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِها، وَلَهُمْ آذانٌ لا يَسْمَعُونَ بِها أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ».
ووجه العبرة في هذا أن هناك قوة فوق جميع القوى قد تؤيد الفئة القليلة فتغلب الفئة الكثيرة بإذنه تعالى، وقوله (تُقاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ) ترشد إلى السر في هذا الفوز، لأنه متى كان القتال في هذا السبيل أي لحماية الحق والدفاع عن الدين وأهله، فإن النفس تقبل عليه بكل ما أوتيت من قوة، وما أمكنها من تدبير واستعداد، علما منها بأن وراء قوتها معونة الله وتأييده، يرشد إلى هذا قوله تعالى: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ. وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَنازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ» فها أنت ذا ترى أن الله أمر المؤمنين بالثبات وبكثرة ذكره لشدّ العزائم والنهوض بالهمم، وبالطاعة لرسوله، وكان هو القائد في تلك الواقعة- واقعة بدر- وطاعة القائد من أهم أسباب الظفر والنجاح في ميدان القتال.
وقد امتثل المؤمنون ما أوصاهم به ربهم بقدر طاقتهم، فوجد لديهم الاستعداد والعزيمة الصادقة، فقاتلوا ثابتين واثقين بنصر الله، فنصرهم وفاء بوعده «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدامَكُمْ».