كُلَّ شَيْءٍ
وقوله خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فذلك لأن الأول يتعلق بالزمان الماضي، والثاني يتناول الأوقات كلها على سبيل الاستمرار. ثم بين أن شيئا من القوى المدركة لا يحيط بحقيقته وأن عقلا من العقول لا يقف على كنه صمديته فقال لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ هذه الآية من مشهورات استدلالات المعتزلة على نفي رؤيته تعالى. قالوا: الإدراك بالبصر عبارة عن الرؤية بدليل أن قول القائل: أدركته ببصري وما رأيته متناقضان. ثم إن قوله لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ يقتضي أنه لا يراه شيء من الأبصار في شيء من الأحوال بدليل صحة الاستثناء.
وأيضا أنه ذكر الآية في معرض المدح والثناء، وكل ما كان عدمه مدحا ولم يكن ذلك من باب الفعل كان ثبوته نقصا كقوله لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ [البقرة: ٢٥٥] لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ [الصمد: ٣] فوجب كون الرؤية نقصا في حقه تعالى. وإنما قيدوا بما لا يكون من باب الفعل لأنه تعالى يمتدح بنفي الظلم عن نفسه في قوله وَما رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ [فصلت:
٤٦] مع أنه تعالى قادر على الظلم عندهم. وأجيب بالمنع من أن إدراك البصر عبارة عن الرؤية لأنه في أصل اللغة موضوع للوصول واللحوق ومنه قالَ أَصْحابُ مُوسى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ [الشعراء: ٦١] أي لملحقون وقوله تعالى حَتَّى إِذا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ [يونس: ٩٠] أي لحقه. وأدرك الغلام أي بلغ، وأدركت الثمرة إذا نضجت. وإذ قد ثبت ذلك فنقول:
الرؤية جنس والإدراك أي إدراك البصر رؤية مع الإحاطة. ولا يلزم من نفي الخاص نفي العام، فلا يلزم من نفي إدراك البصر نفي الرؤية. سلمنا أن إدراك البصر عبارة عن الرؤية لكن قوله لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ لا يفيد إلا نفي العموم وأنتم تدعون عموم النفي فأين ذاك من هذا. وإنما قلنا إنه لا يفيد إلا نفي العموم لأن صيغة الجمع كما تحمل على الاستغراق فقد تحمل على المعهود السابق أيضا. فقوله لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ يفيد أنها لا تدركه في الدنيا وأنها تدركه إذا تبدلت صفاتها وتغيرت أحوالها في الآخرة، أو نقول قول القائل: لا يدركه جميع الأبصار يفيد سلب العموم ولا يفيد عموم السلب، فلم لا يجوز أن يفيد أنه يدركه بعض الأبصار كما لو قيل إن محمدا ما آمن به كل الناس فإنه يفيد أنه آمن به بعض الناس، سلمنا أن الأبصار لا تدركه البتة فلم لا يجوز حصول إدراك الله تعالى بحاسة سادسة يخلقها الله تعالى يوم القيامة كما هو مذهب ضرار بن عمرو الكوفي. أو نقول: سلمنا أن الأبصار لا تدركه فلم قلتم إن المبصرين لا يدركونه، أما قولهم إن الآية مذكورة في معرض المدح فنقول: لو لم يكن الله تعالى جائز الرؤية لما حصل المدح بقوله لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وإنما يحصل التمدح لو كان بحيث نصح رؤيته. ثم إنه تعالى يحجب الأبصار عن رؤيته لغاية جلاله ونهاية جماله. والتحقيق فيه أن النفي المحض والعدم الصرف لا يكون موجبا


الصفحة التالية
Icon