للمدح والعلم به ضروري، بل إذا كان النفي دليلا على حصول صفة ثابتة من صفات المدح قيل: إن ذلك النفي يوجب التمدح كقوله لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ [البقرة: ٢٥٥] فإنه لا يفيد المدح نظرا إلى هذا النفي، فإن الجماد أيضا لا تأخذه سنة ولا نوم إلا أن هذا النفي في حق الباري تعالى يدل على كونه عالما بجميع المعلومات من غير تبدل ولا زوال. فقوله لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ يمتنع أن يفيد المدح إلا إذا دل على معنى موجود وذلك ما قلناه من كونه قادرا على حجب الأبصار ومنعها عن الإحاطة به، فثبت بما ذكرنا أن هذه الآية عليكم لا لكم لأنها أفادت أنه تعالى جائز الرؤية بحسب ذاته. ثم نقول: إذا ثبت ذلك يجب القطع بأن المؤمنين يرونه يوم القيامة لأن القائل قائلان: قائل بجواز الرؤية مع أن المؤمنين يرونه، وقائل لا يرونه ولا تجوز رؤيته، وإذا بطل هذا القول يبقى الأول حقا لأن القول بجواز رؤيته مع أنه لا يراه أحد قول لم يقل به أحد وهذا استدلال لطيف. ثم إن القاضي استدل هاهنا على نفي الرؤية بوجوه أخر خارجة عن التفسير لائقة بالأصول. فأولها أن الحاسة إذا كانت سليمة وكان المرئي حاضرا وكانت الشرائط المعتبرة حاصلة- وهو أن لا يحصل القرب القريب والبعد البعيد وارتفع الحجاب وكان المرئي مقابلا أو في حكم المقابل- فإنه يجب حصول الرؤية وإلا لجاز أن يكون بحضرتنا بوقات وطبول ونحن لا نسمعها ولا نراها، وهذا يوجب السفسطة إذا ثبت هذا فنقول: القرب القريب والبعد البعيد والحجاب والمقابلة في حقه تعالى ممتنع، فلو صحت رؤيته كان المقتضي لحصول تلك الرؤية سلامة الحاسة وكون المرئي بحيث يصح رؤيته، وهذان المعنيان حاصلان في هذا الوقت فوجب أن تحصل رؤيته، وحيث لم تحصل علمنا أن رؤيته ممتنعة في نفسها. وأجيب بأن ذاته تعالى مخالفة لسائر الذوات ولا يلزم من ثبوت حكم لشيء ثبوت مثله فيما يخالفه. وثانيها لو صحت رؤيته لأهل الجنة لرآه أهل النار أيضا لأن القرب والبعد والحجاب ممتنع في حقه تعالى.
وأجيب بأنه لم لا يجوز أن يخلق الله تعالى الرؤية في عيون أهل الجنة ولا يخلقها في عيون أهل النار؟ وثالثها أن كل ما كان مرئيا كان مقابلا أو في حكم المقابل، والله تعالى منزه عن ذلك. وأجيب بمنع الكلية وبأنه إعادة لعين الدعوى لأن النزاع واقع في أن الموجود الذي لا يكون مختصا بمكان وجهة هل يجوز رؤيته أم لا. ورابعها أن أهل الجنة يلزم أن يروه في كل حال حتى عند الجماع لأن القرب والبعد عليه تعالى محال، ولأن رؤيته أعظم اللذات وفوات ذلك يوجب الغم والحزن وذلك لا يليق بحال أهل الجنة. وأجيب بأنهم لعلهم يشتهون الرؤية في حال دون حال كسائر الملاذ والمنافع.
(في تعديد الوجوه الدالة على جواز الرؤية) : منها هذه الآية كما بينا. ومنها أن موسى


الصفحة التالية
Icon