كان المراد أنهما هُدىً في ذاتهما، مَدْعُوٌّ إليه فرعَوْنُ وغَيْرُه، فالناسُ عامٌّ في كل من شاء حينئذ أن يستبصر، والْفُرْقانَ: القرآن لأنه فَرَقَ بيْنَ الحقِّ والباطلِ، ثم توعَّد سبحانه الكفَّارَ عموماً بالعذابِ الشديدِ، والإشارةُ بهذا الوعيد إلى نصارى نجران، وعَزِيزٌ:
معناه: غالبٌ، والنقمة والاِنتقام: معاقبةُ المذْنِبِ بمبالغةٍ في ذلك.
[سورة آل عمران (٣) : الآيات ٥ الى ٧]
إِنَّ اللَّهَ لاَ يَخْفى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ (٥) هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحامِ كَيْفَ يَشاءُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٦) هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا وَما يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُولُوا الْأَلْبابِ (٧)
قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ لاَ يَخْفى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ: هذه الآية خَبَرٌ عن علْمِ اللَّه تعالى بالأشياء، على التفصيل، وهذه صفةٌ لَمْ تكُنْ لعيسى، ولا لأحدٍ من المخلوقين، ثم أخبر سبحانه عن تَصْويره للبَشَرِ في أرحامِ الأمَّهاتِ، وهذا أمر لا ينكرُهُ عاقلٌ، ولا ينكر أنَّ عيسى وسائر البَشَر لا يقْدِرُونَ عليه، ولا ينكر أنَّ عيسى من المصوَّرِينَ كغيره من سائرِ البَشَر، فهذه الآية تعظيمٌ للَّه جلَّتْ قُدْرته في ضِمْنِها الرَّدُّ على نصارى نَجْران، وفي قوله: إِنَّ اللَّهَ لاَ يَخْفى عَلَيْهِ شَيْءٌ: وعيد، وشرح النبيّ صلّى الله عليه وسلّم كيفيَّة التصْويرِ في الحديثِ الَّذي رواه ابنُ مَسْعُودٍ وغيره «أنَّ النُّطْفَةَ، إِذَا وَقَعَتْ فِي الرَّحِمِ، مَكَثَتْ نُطْفَةً أَرْبَعِينَ يَوْماً، ثُمَّ تَكُونُ عَلَقَةً أَرْبَعِينَ يَوْماً، ثُمَّ مُضْغَةً مِثْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ يَبْعَثُ اللَّهُ إلَيْهَا مَلَكاً، فَيَقُولُ: يَا رَبِّ، أَذَكَرْ/ أَمْ أنثى؟ أَشَقِيٌّ أَمْ سَعِيدٌ... » الحديث بطوله على اختلاف ألفاظه «١»، وفي مسندِ ابن «سِنْجَر» حديثٌ «أنَّ اللَّهَ سُبْحَانه يَخْلُقُ عِظَامَ الجَنِينِ وَغَضَارِيفَهُ مِنْ مَنِيِّ الرَّجُلِ، وَلَحْمَهُ وَشَحْمَهُ وَسَائِرَ ذَلِكَ مِنْ مَنِيِّ المَرْأَةِ»، وَصَوَّرَ: بناءُ مبالغةٍ من صَارَ يَصُورُ، إِذا أمال وثنى إلى حالٍ مَّا، فلما كان التصويرُ إمالةً إلى حال، وإِثباتاً فيها، جاء بناؤه على المُبَالغة، والكتابُ في هذه الآية: القرآن، بإِجماع، والمُحْكَمَاتُ:
المفصَّلات المبيَّنات الثابتَاتُ الأحكامِ، والمُتَشَابِهَاتُ: هي التي تحتاجُ إِلى نظر وتأويلٍ، ويظهر فيها ببَادِي النَّظَرِ: إِما تَعَارُضٌ مع أخرى، وإما مع العَقْل إِلى غير ذلك من أنواع التشابه، فهذا الشَّبَه الذي من أجله تُوصَفُ بمتشابهات، إِنما هو بينها وبيْنَ المعانِي الفاسدة الَّتي يظنُّها أهْلُ الزيغِ، ومَنْ لم يُنْعِمِ النظَرَ، وهذا نحوُ الحديث الصحيح عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم:
«الحَلاَلُ بَيِّنٌ وَالحَرَامُ بَيِّنٌ وَبَيْنَهُمَا أُمُورٌ مُشْتَبِهَاتٌ» «٢»، أي: يكون الشيء حراما في نفسه،
(٢) ورد ذلك من حديث النعمان بن بشير، وعمار بن ياسر، وابن عباس، وجابر بن عبد الله. -