بقوله: وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً «١». وقال أبو سليمان الدمشقي:
ليس هذا من المنسوخ، إذ لا تنافي بين الآيتين، وإنما حكم كل آية قائم في موضعها. وذكر القاضي أبو يعلى عن بعض العلماء أنهم قالوا: ليس ها هنا نسخ، ومتى لم يقاوم أهل الثغور العدوَّ، ففرضٌ على الناس النفير إليهم، ومتى استغنَوا عن إعانة مَن وراءهم، عُذر القاعدون عنهم. وقال قوم: هذا في غزوة تبوك، ففُرِض على الناس النّفير مع رسول الله صلى الله عليه وسلم.
[سورة التوبة (٩) : آية ٤٠]
إِلاَّ تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُما فِي الْغارِ إِذْ يَقُولُ لِصاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْها وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٤٠)
قوله تعالى: إِلَّا تَنْصُرُوهُ أي: بالنفير معه فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إعانةً على أعدائه، إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا حين قصدوا إهلاكه على ما شرحنا في قوله تعالى: وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا «٢» فأعلمهم أن نصره ليس بهم.
قوله تعالى: ثانِيَ اثْنَيْنِ العرب تقول: هو ثاني اثنين، أي: أحد الاثنين، وثالث ثلاثة، أي:
أحد الثلاثة، قال الزّجّاج: وقوله تعالى: ثانِيَ اثْنَيْنِ منصوب على الحال المعنى: فقد نصره الله أحد اثنين، أي: نصره منفرداً إلا من أبي بكر، وهذا معنى قول الشعبي: عاتب الله أهل الأرض جميعاً في هذه الآية غير أبي بكر. وقال ابن جرير: المعنى: أخرجوه وهو أحد الاثنين، وهما رسول الله ﷺ وأبو بكر. فأما الغار، فهو ثَقب في الجبل، وقال ابن فارس: الغار: الكهف، والغار: نبت طيِّب الرِّيح، والغار: الجماعة من الناس، والغاران: البطن والفرج، وهما الأجوفان، يقال: إنما هو عبد غارَيْه قال الشاعر:

ألَم تر أنَّ الدَّهْرَ يَوْمٌ وَلَيْلَةٌ وأنَّ الفَتَى يَسْعَى لِغَارَيْهِ دَائِبَا «٣»
قال قتادة: وهذا الغار في جبل بمكة يقال له: ثور. قال مجاهد: مكثا فيه ثلاثاً. وقد ذكرت حديث الهجرة في كتاب «الحدائق».
(١) قال الطبري في «تفسيره» ٦/ ٣٧٤: ولا خبر بالذي قاله عكرمة والحسن من نسخ حكم هذه الآية التي ذكرا، يجب التسليم له. ولا حجة ناف لصحة ذلك. وقد رأى ثبوت الحكم بذلك عدد من الصحابة والتابعين سنذكرهم بعد، وجائز أن يكون قوله: إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً أَلِيماً. الخاص من الناس، ويكون المراد به من استنفره رسول الله ﷺ فلم ينفر، على ما ذكرنا من الرواية عن ابن عباس. وإذ كان ذلك كذلك، كان قوله:
وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً [التوبة: ١٢٢] نهيا من الله المؤمنين عن إخلاء بلاد الإسلام بغير مؤمن مقيم فيها. وإعلاما من الله لهم أن الواجب النفر على بعضهم دون بعض، وذلك على من استنفر منهم دون من لم يستنفر. وإذا كان ذلك كذلك لم يكن في إحدى الآيتين نسخ للأخرى، وكان حكم كل واحدة منهما ماضيا فيما عنيت به ا. هـ.
(٢) سورة الأنفال: ٣.
(٣) البيت في «اللسان» غور، غير منسوب.


الصفحة التالية
Icon