ففعل ذلك، وجمع بين طريقة الاسفرايينى وطريقة ابن فورك) طبقات الشافعية للسبكى ج ٣ ص ٢٤٣ وما بعدها.
وبينما كان القشيري منصرفا بكل همته إلى هذا اللون من الدراسة، دائب الاتصال بهذا الطراز من الشيوخ ساقه القدر ذات يوم إلى مجلس من لون آخر يتصدره شيخ من طراز آخر. استمع القشيري إلى أبى على الدقاق وهو يعظ على طريقة الصوفية ويتحدث فى الرياضات والمجاهدات، والأحوال والمكشوفات، والأذواق والمواجيد، والمعارف العليا التي تنثال من الحق على عباده الذين اصطفاهم، وإذا بالرجل والحديث يستوليان عليه، ويملكان فيه كل ذرة، وإذا القشيري يحادث نفسه صامتا: إنى لهذا خلقت! وعند ما كان يتهيأ ليغشى ما اعتاد من مجالس كانت أقدامه تسوقه نحو الدقاق ومجلسه فكان أول من يجلس وآخر من ينهض.
ولمحه الشيخ، ورأى فيه إصغاء ملفتا للنظر، فقربه منه، وحباه بعطفه.
وذات يوم تقدم الطالب- فى استحياء- من شيخه، فشكا إليه أمرا حزبه إنه لا يستطيع أن يجمع بين المواظبة على ما اعتاد من مجالس وبين مجلس الدقاق، وهو يؤثر أن ينصرف بكل همته وعزيمته إلى علم القلوب، وابتسم الشيخ للشاب، وتطلع إلى وجهه، وربت على كتفه قائلا:
- إنما ينبغى لك أولا أن تتقن دراستك بقدر طاقتك! ومضى الشاب الطموح يجمع بين الدراستين، وساعده ذلك على أن يتكون تكوينا عقليا ووجدانيا فى مرحلة من أدق مراحل العمر، كما ساعده على أن يتجنّب كثيرا من المشاكل النفسية التي تلم بأمثاله نتيجة الاغتراب عن بلده، ونتيجة الملل.
وأعجب الدقاق بمثابرته وطموحه واستقامته وتواضعه (فاختاره لكريمته فاطمة مؤثرا إياه على سائر أقربائها الذين تقدموا لخطبتها)، وفيات الأعيان ج ٢ ص ٣٧٥.
وهكذا توثقت الصلة بين الشيخ والشاب، وصار الدقاق رائدة وملهمه الذي أعانه على مواجهة مشكلات الحياة، وبصّره بآفات النفس وأدوائها، وكشف له عن الكثير من الخفايا والدقائق.