وقد اجتمعا في قوله: (إنَّ عِدَّةَ الشّهُورِ عند الله اثْنَا عشَر شَهْراً في كتاب الله)... إلى أن قال: (منها أرْبعَة حُرُم)، فأعاد (منها) بصيغة الإفراد على الشهور وهي للكثرة، ثم قال: (فلا تظْلموا فِيهنَّ أنْفُسَكم)، فأعاده جمعاً على (أربعة حُرُم) وهي للقلّة.
وذكر الفراء لهذه القاعدة سرًّا لطيفاً، وهو أنَّ المميّز مع جمع الكثرة - وهو
ما زاد على العشرة - لما كان واحداً وحّد الضمير، ومع القلّة، وهو العشرة وما دونها، لمّا كان جمعاً جمع الضمير.
قاعدة
إذا اجتمع في الضمائر مراعاة اللَّفْظِ والمعنى بُدِئَ باللفظ ثُمَّ بالمعنى، هذا هو
الجادّة في القرآن، قال تعالى: (ومِنَ الناس مَنْ يقول)، ثم قال: (وما هم بمؤمنين).
أفردَ أوّلاً باعتبار اللفظ، ثم جمع باعتبار المعنى.
وكذا: (ومِنْهمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إليكَ وجَعلْنَا على قلوبهم أكِنةً).
(ومنهم مَنْ يَقُول ائْذَنْ لي ولا تفْتِنِّي ألا في الفتنة سقَطوا).
قال الشيخ علم الدين العراقي: ولم يجئ في القرآن البداءة بالحمل
على المعنى إلا في موضع واحد، وهو قوله تعالى: (وَقَالُوا مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الْأَنْعَامِ خَالِصَةٌ لِذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَى أَزْوَاجِنَا)، فأنَّثَ (خَالِصَةٌ) حَمْلاً على معنى ما ثم راعى اللفظَ فذكّر فقال: (وَمُحَرَّمٌ).
قال ابن الحاجب في أماليه: إذا حمل على اللفظ جاز الحمل بعده على المعنى.
وإذا حمل على المعنى ضعف الحَمْل بعده على اللفظ، لأن المعنى أقوى، فلا يبعد الرجوع إليه بعد اعتبار اللفظ، ويضعف بعد اعتبار المعنى القويّ الرجوع إلى الأضعف.
وقال ابن جنّي في المحتسب: لا تجوز مراجعةُ اللفظ بعد انصرافه عنه
إلى المعنى، وأورد عليه قوله تعالى: (وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا)، إلى قوله: (حتى إذا جاءنا)، فقد راجع اللفظَ بعد الانصراف عنه إلى المعنى.