وجِئْتَ بِالْحَقِّ معناه- عند من جعلهم عصاة- بينت لنا غاية البيان، وجِئْتَ بِالْحَقِّ الذي طلبناه، لا إنه كان يجيء قبل ذلك بغير حق، ومعناه عند ابن زيد- الذي حمل محاورتهم على الكفر-: الآن صدقت. وأذعنوا في هذه الحال حين بين لهم أنها سائمة، وقيل إنهم عيّنوها مع هذه الأوصاف، وقالوا:
هذه بقرة فلان، وهذه الآية تعطي أن الذبح أصل في البقر، وإن نحر أجزأت.
وقوله تعالى: وَما كادُوا يَفْعَلُونَ عبارة عن تثبطهم في ذبحها، وقلة مبادرتهم إلى أمر الله تعالى، وقال محمد بن كعب القرظي: كان ذلك منهم لغلاء البقرة وكثرة ثمنها، وقال غيره: كان ذلك خوف الفضيحة في أمر القاتل، وقيل: كان ذلك للمعهود من قلة انقيادهم وتعنتهم على الأنبياء، وقد تقدم قصص القتيل الذي يراد بقوله تعالى: وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً، والمعنى قلنا لهم اذكروا إذ قتلتم.
و «ادارأتم» أصله: تدارأتم، ثم أدغمت التاء في الدال فتعذر الابتداء بمدغم، فجلبت ألف الوصل، ومعناه تدافعتم أي دفع بعضكم قتل القتيل إلى بعض، قال الشاعر: [الرجز] صادف درء السّيل درءا يدفعه وقال الآخر [الخفيف] :
| مدرأ يدرأ الخصوم بقول | مثل حدّ الصّمصامة الهندواني |
وقوله: اضْرِبُوهُ بِبَعْضِها
آية من الله تعالى على يدي موسى عليه السلام أن أمرهم أن يضربوا ببعض البقرة القتيل فيحيى ويخبر بقاتله، فقيل: ضربوه، وقيل: ضربوا قبره، لأن ابن عباس ذكر أن أمر القتيل وقع قبل جواز البحر، وأنهم داموا في طلب البقرة أربعين سنة، وقال القرظي: لقد أمروا بطلبها وما هي في صلب ولا رحم بعد، وقال السدي: ضرب باللحمة التي بين الكتفين، وقال مجاهد وقتادة وعبيدة السلماني: ضرب بالفخذ، وقيل: ضرب باللسان، وقيل: بالذنب، وقال أبو العالية: بعظم من عظامها.
وقوله تعالى: كَذلِكَ يُحْيِ اللَّهُ الْمَوْتى
الآية، الإشارة ب كَذلِكَ
إلى الإحياء الذي تضمنه قصص الآية، إذ في الكلام حذف، تقديره: فضربوه فحيي، وفي هذه الآية حض على العبرة، ودلالة على البعث في الآخرة. وظاهرها أنها خطاب لبني إسرائيل، حينئذ حكي لمحمد ﷺ ليعتبر به إلى يوم القيامة، وذهب الطبري إلى أنها خطاب لمعاصري محمد صلى الله عليه وسلم، وأنها مقطوعة من قوله تعالى: اضْرِبُوهُ بِبَعْضِها
، وروي أن هذا القتيل لما حيي وأخبر بقاتله عاد ميتا كما كان، واستدل مالك رحمه الله بهذه النازلة على تجويز قول القتيل وأن تقع معه القسامة.
قوله عز وجل:
ثمّ قست قلوبكم من بعد ذلك فهى كالحجارة أو أشدّ قسوة وإنّ من الحجارة لما يتفجّر منه