الْحُجَّةُ الثَّانِيَةُ: أَنَّ صَرِيحَ الْعَقْلِ يُوجِبُ فِي حِكْمَةِ الْحَكِيمِ أَنْ يُفَرِّقَ بَيْنَ الْمُحْسِنِ وَبَيْنَ الْمُسِيءِ، وَأَنْ لَا يَجْعَلَ مَنْ كَفَرَ بِهِ، أَوْ جَحَدَهُ بِمَنْزِلَةِ مَنْ أَطَاعَهُ، وَلَمَّا وَجَبَ إِظْهَارُ هَذِهِ التَّفْرِقَةِ فَحُصُولُ هَذِهِ التَّفْرِقَةِ إِمَّا أَنْ يَكُونَ فِي دَارِ الدُّنْيَا، أَوْ فِي دَارِ الْآخِرَةِ، وَالْأَوَّلُ بَاطِلٌ لِأَنَّا نَرَى الْكُفَّارَ وَالْفُسَّاقَ فِي الدُّنْيَا فِي أَعْظَمِ الرَّاحَاتِ، وَنَرَى الْعُلَمَاءَ وَالزُّهَّادَ بِالضِّدِّ مِنْهُ، وَلِهَذَا الْمَعْنَى قَالَ تَعَالَى: وَلَوْلا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً لَجَعَلْنا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِنْ فِضَّةٍ [الزُّخْرُفِ: ٣٣] فَثَبَتَ أَنَّهُ لَا بُدَّ بَعْدَ هَذِهِ الدَّارِ مِنْ دَارٍ أُخْرَى، وَهُوَ الْمُرَادُ مِنَ الْآيَةُ الَّتِي نَحْنُ فِي تَفْسِيرِهَا وَهِيَ قَوْلُهُ: لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ بِالْقِسْطِ وَهُوَ الْمُرَادُ أَيْضًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ طَهَ: إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكادُ أُخْفِيها لِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما تَسْعى [طه: ١٥] وَبِقَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ ص: أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ [ص: ٢٨].
فَإِنْ قِيلَ: أَمَا أَنْكَرْتُمْ أَنْ يُقَالَ إِنَّهُ تَعَالَى لَا يَفْصِلُ بَيْنَ الْمُحْسِنِ وَبَيْنَ الْمُسِيءِ فِي الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ كَمَا لَمْ يَفْصِلْ بَيْنَهُمَا فِي حُسْنِ الصُّورَةِ وَفِي كَثْرَةِ الْمَالِ؟.
وَالْجَوَابُ: أَنَّ هَذَا الَّذِي ذَكَرْتَهُ مِمَّا يُقَوِّي دَلِيلَنَا، فَإِنَّهُ ثَبَتَ فِي صَرِيحِ الْعَقْلِ وُجُوبُ التَّفْرِقَةِ، وَدَلَّ الْحِسُّ عَلَى أَنَّهُ لَمْ تَحْصُلْ هَذِهِ التَّفْرِقَةُ فِي الدُّنْيَا، بَلْ كَانَ الْأَمْرُ عَلَى الضِّدِّ مِنْهُ، فَإِنَّا نَرَى الْعَالِمَ وَالزَّاهِدَ فِي أَشَدِّ الْبَلَاءِ، وَنَرَى الْكَافِرَ وَالْفَاسِقَ فِي أَعْظَمِ النِّعَمِ فَعَلِمْنَا أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ دَارٍ أُخْرَى يَظْهَرُ فِيهَا هَذَا التَّفَاوُتُ، وَأَيْضًا لَا يَبْعُدُ أَنْ يُقَالَ إِنَّهُ تَعَالَى عَلِمَ أَنَّ هَذَا الزَّاهِدَ الْعَابِدَ لَوْ أَعْطَاهُ مَا دُفِعَ إِلَى الْكَافِرِ الْفَاسِقِ لَطَغَى وَبَغَى وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا، وَأَنَّ ذَلِكَ الْكَافِرَ الْفَاسِقَ لَوْ زَادَ عَلَيْهِ فِي التَّضْيِيقِ لَزَادَ فِي الشَّرِّ وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ [الشُّورَى: ٢٧].
الْحُجَّةُ الثَّالِثَةُ: أَنَّهُ تَعَالَى كَلَّفَ عَبِيدَهُ بِالْعُبُودِيَّةِ فَقَالَ: وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذَّارِيَاتِ: ٥٦] وَالْحَكِيمُ إِذَا أَمَرَ عَبْدَهُ بِشَيْءٍ، فلا بد وأن يجعله فارغ الباب مُنْتَظِمَ الْأَحْوَالِ حَتَّى يُمْكِنَهُ الِاشْتِغَالُ بِأَدَاءِ تِلْكَ التَّكَالِيفِ، وَالنَّاسُ جُبِلُوا عَلَى طَلَبِ اللَّذَّاتِ وَتَحْصِيلِ الرَّاحَاتِ لِأَنْفُسِهِمْ، فَلَوْ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ زَاجِرٌ مِنْ خَوْفِ الْمَعَادِ لَكَثُرَ الْهَرَجُ وَالْمَرَجُ وَلَعَظُمَتِ الْفِتَنُ، وَحِينَئِذٍ لَا يَتَفَرَّغُ الْمُكَلَّفُ لِلِاشْتِغَالِ بِأَدَاءِ الْعِبَادَاتِ.
فَوَجَبَ الْقَطْعُ بِحُصُولِ دَارِ الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ لِتَنْتَظِمَ أَحْوَالُ الْعَالَمِ حَتَّى يَقْدِرَ الْمُكَلَّفُ عَلَى الِاشْتِغَالِ بِأَدَاءِ الْعُبُودِيَّةِ.
فَإِنْ قِيلَ: لِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ إِنَّهُ يَكْفِي فِي بَقَاءِ نِظَامِ الْعَالَمِ مَهَابَةُ الْمُلُوكِ وَسِيَاسَاتُهُمْ؟ وَأَيْضًا فَالْأَوْبَاشُ يَعْلَمُونَ أَنَّهُمْ لَوْ حَكَمُوا بِحُسْنِ الْهَرَجَ وَالْمَرَجِ لَانْقَلَبَ الْأَمْرُ عَلَيْهِمْ وَلَقَدَرَ غَيْرُهُمْ عَلَى قَتْلِهِمْ، وَأَخْذِ أَمْوَالِهِمْ، فَلِهَذَا الْمَعْنَى يَحْتَرِزُونَ عَنْ إِثَارَةِ الْفِتَنِ.
وَالْجَوَابُ: أَنَّ مُجَرَّدَ مَهَابَةِ السَّلَاطِينِ لَا تَكْفِي فِي ذَلِكَ، وَذَلِكَ لِأَنَّ السُّلْطَانَ إِمَّا أَنْ يَكُونَ قَدْ بَلَغَ فِي الْقُدْرَةِ وَالْقُوَّةِ إِلَى حَيْثُ لَا يَخَافُ مِنَ الرَّعِيَّةِ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ خَائِفًا مِنْهُمْ، فَإِنْ كَانَ لَا يَخَافُ الرَّعِيَّةَ مَعَ أَنَّهُ لَا خَوْفَ لَهُ مِنَ الْمَعَادِ، فَحِينَئِذٍ يُقْدِمُ عَلَى الظُّلْمِ وَالْإِيذَاءِ عَلَى أَقْبَحِ الْوُجُوهِ، لِأَنَّ الدَّاعِيَةَ النَّفْسَانِيَّةَ قَائِمَةٌ، وَلَا رَادِعَ لَهُ فِي الدُّنْيَا وَلَا فِي الْآخِرَةِ، وَأَمَّا إِنْ كَانَ يَخَافُ الرَّعِيَّةَ فَحِينَئِذٍ الرَّعِيَّةُ لَا يَخَافُونَ مِنْهُ خَوْفًا شَدِيدًا، فَلَا يَصِيرُ ذَلِكَ رَادِعًا لَهُمْ عَنِ الْقَبَائِحِ وَالظُّلْمِ فَثَبَتَ أَنَّ نِظَامَ الْعَالَمِ لَا يَتِمُّ وَلَا يَكْمُلُ إِلَّا بِالرَّغْبَةِ فِي الْمَعَادِ وَالرَّهْبَةِ عَنْهُ.


الصفحة التالية
Icon