الحجة الرابعة: [في وجوب الانتصاف للمظلوم الضعيف من الظالم القادر القوي على السلطان القاهر الرحيم] أَنَّ السُّلْطَانَ الْقَاهِرَ إِذَا كَانَ لَهُ جَمْعٌ مِنَ الْعَبِيدِ، وَكَانَ بَعْضُهُمْ أَقْوِيَاءَ وَبَعْضُهُمْ ضُعَفَاءَ، وَجَبَ عَلَى ذَلِكَ السُّلْطَانِ إِنْ كَانَ رَحِيمًا نَاظِرًا مُشْفِقًا عَلَيْهِمْ أَنْ يَنْتَصِفَ لِلْمَظْلُومِ الضَّعِيفِ مِنَ الظَّالِمِ الْقَادِرِ الْقَوِيِّ، فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ كَانَ رَاضِيًا بِذَلِكَ الظُّلْمِ، وَالرِّضَا بِالظُّلْمِ لَا يَلِيقُ بِالرَّحِيمِ النَّاظِرِ الْمُحْسِنِ.
إِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ: إِنَّهُ سُبْحَانَهُ سُلْطَانٌ قَاهِرٌ قَادِرٌ حَكِيمٌ مُنَزَّهٌ عَنِ الظُّلْمِ وَالْعَبَثِ فَوَجَبَ أَن يَنْتَصِفَ لِعَبِيدِهِ الْمَظْلُومِينَ مِنْ عَبِيدِهِ الظَّالِمِينَ، وَهَذَا الِانْتِصَافُ لَمْ يَحْصُلْ فِي هَذِهِ الدَّارِ، لِأَنَّ الْمَظْلُومَ قَدْ يَبْقَى فِي غَايَةِ الذِّلَّةِ وَالْمَهَانَةِ، وَالظَّالِمَ يَبْقَى فِي غَايَةِ الْعِزَّةِ وَالْقُدْرَةِ، فَلَا بُدَّ مِنْ دَارٍ أُخْرَى يَظْهَرُ فِيهَا هَذَا الْعَدْلُ وَهَذَا الْإِنْصَافُ، وَهَذِهِ الْحُجَّةُ يَصْلُحُ جَعْلُهَا تَفْسِيرًا لِهَذِهِ الْآيَةِ الَّتِي نَحْنُ فِي تَفْسِيرِهَا.
فَإِنْ قَالُوا: إِنَّهُ تَعَالَى لَمَّا أَقْدَرَ الظَّالِمَ عَلَى الظُّلْمِ فِي هَذِهِ الدَّارِ، وَمَا أَعْجَزَهُ عَنْهُ، دَلَّ عَلَى كَوْنِهِ رَاضِيًا بِذَلِكَ الظُّلْمِ.
قُلْنَا: الْإِقْدَارُ عَلَى الظُّلْمِ عَيْنُ الْإِقْدَارِ عَلَى الْعَدْلِ وَالطَّاعَةِ، فَلَوْ لَمْ يُقْدِرْهُ تَعَالَى عَلَى الظُّلْمِ لَكَانَ قَدْ أَعْجَزَهُ عَنْ فِعْلِ الْخَيْرَاتِ وَالطَّاعَاتِ، وَذَلِكَ لَا يَلِيقُ بِالْحَكِيمِ، فَوَجَبَ فِي الْعَقْلِ إِقْدَارُهُ عَلَى الظُّلْمِ وَالْعَدْلِ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى يَنْتَقِمُ لِلْمَظْلُومِ مِنَ الظَّالِمِ.
الْحُجَّةُ الْخَامِسَةُ: أَنَّهُ تَعَالَى خَلَقَ هَذَا الْعَالَمَ وَخَلَقَ كُلَّ مَنْ فِيهِ مِنَ النَّاسِ فَإِمَّا أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ تَعَالَى خَلَقَهُمْ لَا لِمَنْفَعَةٍ وَلَا لِمَصْلَحَةِ، أَوْ يُقَالَ: إِنَّهُ تَعَالَى خَلَقَهُمْ لِمَصْلَحَةٍ وَمَنْفَعَةٍ. وَالْأَوَّلُ: يَلِيقُ بِالرَّحِيمِ الْكَرِيمِ. وَالثَّانِي: وَهُوَ أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ خَلَقَهُمْ لِمَقْصُودٍ وَمَصْلَحَةٍ وَخَيْرٍ، فَذَلِكَ الْخَيْرُ وَالْمَصْلَحَةُ إِمَّا أَنْ يَحْصُلَ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا أَوْ فِي دَارٍ أُخْرَى، وَالْأَوَّلُ بَاطِلٌ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ لَذَّاتِ هَذَا/ الْعَالَمِ جُسْمَانِيَّةٌ، وَاللَّذَّاتُ الْجُسْمَانِيَّةُ لَا حَقِيقَةَ لَهَا إِلَّا إِزَالَةُ الْأَلَمِ، وَإِزَالَةُ الْأَلَمِ أَمْرٌ عَدَمِيٌّ، وَهَذَا الْعَدَمُ كَانَ حَاصِلًا حَالَ كَوْنِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْخَلَائِقِ مَعْدُومًا، وَحِينَئِذٍ لَا يَبْقَى لِلتَّخْلِيقِ فَائِدَةٌ. وَالثَّانِي: أَنَّ لَذَّاتِ هَذَا الْعَالَمِ مَمْزُوجَةٌ بِالْآلَامِ وَالْمِحَنِ، بَلِ الدُّنْيَا طَافِحَةٌ بِالشُّرُورِ وَالْآفَاتِ وَالْمِحَنِ وَالْبَلِيَّاتِ، وَاللَّذَّةُ فِيهَا كَالْقَطْرَةِ فِي الْبَحْرِ فَعَلِمْنَا أَنَّ الدَّارَ الَّتِي يَصِلُ فِيهَا الْخَلْقُ إِلَى تِلْكَ الرَّاحَاتِ الْمَقْصُودَةِ دَارٌ أُخْرَى سِوَى دَارِ الدُّنْيَا.
فَإِنْ قَالُوا: أَلَيْسَ أَنَّهُ تَعَالَى يُؤْلِمُ أَهْلَ النَّارِ بِأَشَدِّ الْعَذَابِ لَا لِأَجْلِ مَصْلَحَةٍ وَحِكْمَةٍ؟ فَلِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ:
إِنَّهُ تَعَالَى يَخْلُقُ الْخَلْقَ فِي هَذَا الْعَالَمِ لَا لِمَصْلَحَةٍ وَلَا لِحِكْمَةٍ.
قُلْنَا: الْفَرْقُ أَنَّ ذَلِكَ الضَّرَرَ ضَرَرٌ مُسْتَحَقٌّ عَلَى أَعْمَالِهِمُ الْخَبِيثَةِ وَأَمَّا الضَّرَرُ الْحَاصِلُ فِي الدُّنْيَا فَغَيْرُ مُسْتَحَقٍّ، فَوَجَبَ أَنْ يَعْقُبَهُ خَيْرَاتٌ عَظِيمَةٌ وَمَنَافِعُ جَابِرَةٌ لِتِلْكَ الْمَضَارِّ السَّالِفَةِ، وَإِلَّا لَزِمَ أَنْ يَكُونَ الْفَاعِلُ شِرِّيرًا مُؤْذِيًا، وَذَلِكَ يُنَافِي كَوْنَهُ أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ وَأَكْرَمَ الْأَكْرَمِينَ.
الْحُجَّةُ السَّادِسَةُ: لَوْ لَمْ يَحْصُلْ لِلْإِنْسَانِ مَعَادٌ لَكَانَ الْإِنْسَانُ أَخَسَّ مِنْ جَمِيعِ الْحَيَوَانَاتِ فِي الْمَنْزِلَةِ وَالشَّرَفِ وَاللَّازِمُ بَاطِلٌ، فَالْمَلْزُومُ مِثْلُهُ بَيَانُ الْمُلَازَمَةِ أَنَّ مَضَارَّ الْإِنْسَانِ فِي الدُّنْيَا أَكْثَرُ مِنْ مَضَارِّ جَمِيعِ الْحَيَوَانَاتِ، فَإِنَّ سَائِرَ الْحَيَوَانَاتِ قَبْلَ وُقُوعِهَا فِي الْآلَامِ وَالْأَسْقَامِ تَكُونُ فَارِغَةَ الْبَالِ طَيِّبَةَ النَّفْسِ، لِأَنَّهُ لَيْسَ لَهَا فِكْرٌ وَتَأَمُّلٌ أَمَّا الْإِنْسَانُ فَإِنَّهُ بِسَبَبِ مَا يَحْصُلُ لَهُ مِنَ الْعَقْلِ يَتَفَكَّرُ أَبَدًا فِي الْأَحْوَالِ الْمَاضِيَةِ وَالْأَحْوَالِ الْمُسْتَقْبَلَةِ، فَيَحْصُلُ لَهُ بِسَبَبِ أَكْثَرِ الْأَحْوَالِ الْمَاضِيَةِ أَنْوَاعٌ مِنَ الْحُزْنِ وَالْأَسَفِ، وَيَحْصُلُ لَهُ بِسَبَبِ أَكْثَرِ الْأَحْوَالِ الآتية أنواع


الصفحة التالية
Icon