الْكَرَامَاتِ الْعَالِيَةِ الرَّفِيعَةِ وَفِي إِظْهَارِ خَوَارِقِ الْعَادَاتِ وَإِحْدَاثِ الْبَيِّنَاتِ وَالْمُعْجِزَاتِ، فَكَيْفَ يَلِيقُ بِهِ التَّعَجُّبُ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ: أَهْلَ الْبَيْتِ فَإِنَّهُ مَدْحٌ لَهُمْ فَهُوَ نَصْبٌ عَلَى النِّدَاءِ أَوْ عَلَى الِاخْتِصَاصِ، ثُمَّ أَكَّدُوا ذَلِكَ بِقَوْلِهِمْ: إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ وَالْحَمِيدُ هُوَ الْمَحْمُودُ وَهُوَ الَّذِي تُحْمَدُ أَفْعَالُهُ، وَالْمَجِيدُ الْمَاجِدُ، وَهُوَ ذُو الشَّرَفِ وَالْكَرَمِ، وَمِنْ مَحَامِدِ الْأَفْعَالِ إِيصَالُ الْعَبْدِ الْمُطِيعِ إِلَى مُرَادِهِ وَمَطْلُوبِهِ، وَمِنْ أَنْوَاعِ الْفَضْلِ وَالْكَرَمِ أَنْ لَا يُمْنَعَ الطَّالِبُ عَنْ مَطْلُوبِهِ، فَإِذَا كَانَ مِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّهُ تَعَالَى قَادِرٌ عَلَى الْكُلِّ وَأَنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ، فَكَيْفَ يَبْقَى هَذَا التَّعَجُّبُ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ فَثَبَتَ أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ ذِكْرِ هذه الكلمات إزالة التعجب.
[سورة هود (١١) : الآيات ٧٤ الى ٧٥]
فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْراهِيمَ الرَّوْعُ وَجاءَتْهُ الْبُشْرى يُجادِلُنا فِي قَوْمِ لُوطٍ (٧٤) إِنَّ إِبْراهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ (٧٥)
اعْلَمْ أَنَّ هَذَا هُوَ الْقِصَّةُ الْخَامِسَةُ وَهِيَ قِصَّةُ لُوطٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَاعْلَمْ أَنَّ الرَّوْعَ هُوَ الْخَوْفُ/ وَهُوَ مَا أَوْجَسَ مِنَ الْخِيفَةِ حِينَ أَنْكَرَ أَضْيَافَهُ وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ لَمَّا زَالَ الْخَوْفُ وَحَصَلَ السُّرُورُ بِسَبَبِ مَجِيءِ الْبُشْرَى بِحُصُولِ الْوَلَدِ، أَخَذَ يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ وَجَوَابُ لَمَّا هُوَ قَوْلُهُ: أَخَذَ إِلَّا أَنَّهُ حُذِفَ فِي اللَّفْظِ لِدَلَالَةِ الْكَلَامِ عَلَيْهِ، وَقِيلَ تَقْدِيرُهُ: لَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ جَادَلَنَا.
وَاعْلَمْ أَنَّ قَوْلَهُ: يُجادِلُنا أَيْ يُجَادِلُ رُسُلَنَا.
فَإِنْ قِيلَ: هَذِهِ الْمُجَادَلَةُ إِنْ كَانَتْ مَعَ اللَّه تَعَالَى فَهِيَ جَرَاءَةٌ عَلَى اللَّه، وَالْجَرَاءَةُ عَلَى اللَّه تَعَالَى مِنْ أَعْظَمِ الذُّنُوبِ، وَلِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ هَذِهِ الْمُجَادَلَةِ إِزَالَةُ ذَلِكَ الْحُكْمِ وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ مَا كَانَ رَاضِيًا بِقَضَاءِ اللَّه تَعَالَى وَأَنَّهُ كَفَرَ وَإِنْ كَانَتْ هَذِهِ الْمُجَادَلَةُ مَعَ الْمَلَائِكَةِ فَهِيَ أَيْضًا عَجِيبَةٌ، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ هَذِهِ الْمُجَادَلَةِ أَنْ يَتْرُكُوا إِهْلَاكَ قَوْمِ لُوطٍ، فَإِنْ كَانَ قَدِ اعْتَقَدَ فِيهِمْ أَنَّهُمْ مِنْ تِلْقَاءِ أَنْفُسِهِمْ يُجَادِلُونَ فِي هَذَا الْإِهْلَاكِ فَهَذَا سُوءُ ظَنٍّ بِهِمْ.
وَإِنِ اعْتَقَدَ فِيهِمْ أَنَّهُمْ بِأَمْرِ اللَّه جَاءُوا فَهَذِهِ الْمُجَادَلَةُ تَقْتَضِي أَنَّهُ كَانَ يَطْلُبُ مِنْهُمْ مُخَالَفَةَ أَمْرِ اللَّه تَعَالَى وَهَذَا مُنْكَرٌ.
وَالْجَوَابُ: مِنْ وَجْهَيْنِ:
الْوَجْهُ الْأَوَّلُ: وَهُوَ الْجَوَابُ الْإِجْمَالِيُّ أَنَّهُ تَعَالَى مَدَحَهُ عَقِيبَ هَذِهِ الْآيَةِ فَقَالَ: إِنَّ إِبْراهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ وَلَوْ كَانَ هَذَا الْجَدَلُ مِنَ الذُّنُوبِ لَمَا ذُكِرَ عَقِيبَهُ مَا يَدُلُّ عَلَى الْمَدْحِ الْعَظِيمِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ الْجَوَابُ التَّفْصِيلِيُّ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ هَذِهِ الْمُجَادَلَةِ سَعْيُ إِبْرَاهِيمَ فِي تَأْخِيرِ الْعَذَابِ عَنْهُمْ وَتَقْرِيرُهُ مِنْ وُجُوهٍ:
الْوَجْهُ الْأَوَّلُ: أَنَّ الْمَلَائِكَةَ قالوا: إِنَّا مُهْلِكُوا أَهْلِ هذِهِ الْقَرْيَةِ فَقَالَ إِبْرَاهِيمُ: أَرَأَيْتُمْ لَوْ كَانَ فِيهَا خَمْسُونَ رَجُلًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَتُهْلِكُونَهَا؟ قَالُوا: لَا. قَالَ: فَأَرْبَعُونَ قَالُوا: لَا. قَالَ: فَثَلَاثُونَ قَالُوا لَا. حَتَّى بَلَغَ الْعَشْرَةَ قَالُوا: لَا. قَالَ: أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ فِيهَا رَجُلٌ مُسْلِمٌ أَتُهْلِكُونَهَا؟ قَالُوا: لَا. فَعِنْدَ ذَلِكَ قَالَ: إِنَّ فِيهَا لُوطًا وَقَدْ ذَكَرَ اللَّه تَعَالَى هَذَا فِي سُورَةِ الْعَنْكَبُوتِ فَقَالَ: وَلَمَّا جاءَتْ رُسُلُنا إِبْراهِيمَ بِالْبُشْرى قالُوا إِنَّا مُهْلِكُوا أَهْلِ هذِهِ الْقَرْيَةِ إِنَّ أَهْلَها كانُوا ظالِمِينَ قالَ إِنَّ فِيها لُوطاً قالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيها لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ [الْعَنْكَبُوتِ: ٣١، ٣٢].
ثُمَّ قَالَ: وَلَمَّا أَنْ جاءَتْ رُسُلُنا لُوطاً سِيءَ بِهِمْ وَضاقَ بِهِمْ ذَرْعاً وَقالُوا لَا تَخَفْ وَلا تَحْزَنْ إِنَّا مُنَجُّوكَ