الْحَسَنُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «إِنَّ الْمَرْأَةَ خُلِقَتْ مِنْ ضِلَعِ الرَّجُلِ فَإِنْ أَرَدْتَ أَنْ تُقِيمَهَا كَسَرْتَهَا وَإِنْ تَرَكْتَهَا انْتَفَعْتَ بِهَا وَاسْتَقَامَتْ».
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: اخْتَلَفُوا فِي الْجَنَّةِ الْمَذْكُورَةِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، هَلْ كَانَتْ فِي الْأَرْضِ أَوْ فِي السَّمَاءِ؟ وَبِتَقْدِيرِ أَنَّهَا كَانَتْ فِي السَّمَاءِ فَهَلْ هِيَ الْجَنَّةُ الَّتِي هِيَ دَارُ الثَّوَابِ أَوْ جَنَّةُ الْخُلْدِ أَوْ جَنَّةٌ أُخْرَى؟ فَقَالَ أَبُو الْقَاسِمِ الْبَلْخِيُّ وَأَبُو مُسْلِمٍ الْأَصْفَهَانِيُّ: هَذِهِ الْجَنَّةُ كَانَتْ فِي الْأَرْضِ، وَحَمَلَا الْإِهْبَاطَ عَلَى الِانْتِقَالِ مِنْ بُقْعَةٍ إِلَى بُقْعَةٍ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: اهْبِطُوا مِصْراً [الْبَقَرَةِ: ٦١] وَاحْتَجَّا عَلَيْهِ بِوُجُوهٍ أَحَدُهَا: أَنَّ هَذِهِ الْجَنَّةَ لَوْ كَانَتْ هِيَ دَارَ الثَّوَابِ لَكَانَتْ جَنَّةَ الْخُلْدِ وَلَوْ كَانَ آدَمُ فِي جَنَّةِ الْخُلْدِ لَمَا لَحِقَهُ الْغُرُورُ مِنْ إِبْلِيسَ بِقَوْلِهِ: هَلْ أَدُلُّكَ عَلى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَا يَبْلى [طه: ١٢٠]، وَلَمَا صَحَّ قَوْلُهُ: مَا نَهاكُما رَبُّكُما عَنْ هذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونا مِنَ الْخالِدِينَ [الْأَعْرَافِ: ٢٠]. وَثَانِيهَا: أَنَّ مَنْ دَخَلَ هَذِهِ الْجَنَّةَ لَا يَخْرُجُ مِنْهَا لِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَما هُمْ مِنْها بِمُخْرَجِينَ [الْحِجْرِ: ٤٨]. وَثَالِثُهَا: أَنَّ إِبْلِيسَ لَمَّا امْتَنَعَ عَنِ السُّجُودِ لُعِنَ فَمَا كَانَ يَقْدِرُ مَعَ غَضَبِ اللَّهِ عَلَى أَنْ يَصِلَ إِلَى جَنَّةِ الْخُلْدِ. وَرَابِعُهَا: أَنَّ الْجَنَّةَ الَّتِي هِيَ دَارُ الثَّوَابِ لَا يَفْنَى نَعِيمُهَا لِقَوْلِهِ تَعَالَى: أُكُلُها دائِمٌ وَظِلُّها [الرَّعْدِ: ٣٥] وَلِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خالِدِينَ فِيها إِلَى أَنْ قَالَ: عَطاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ [هُودٍ: ١٠٨] أَيْ غَيْرَ مَقْطُوعٍ، فَهَذِهِ الْجَنَّةُ لَوْ كَانَتْ هِيَ الَّتِي دَخَلَهَا آدَمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَا فَنِيَتْ، لَكِنَّهَا تَفْنَى لِقَوْلِهِ تَعَالَى: كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ [الْقَصَصِ: ٨٨] وَلَمَا خَرَجَ مِنْهَا آدَمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَكِنَّهُ خَرَجَ مِنْهَا وَانْقَطَعَتْ تِلْكَ الرَّاحَاتُ. وَخَامِسُهَا: أَنَّهُ لَا يَجُوزُ فِي حِكْمَتِهِ تَعَالَى أَنْ يَبْتَدِئَ الْخَلْقَ فِي جَنَّةٍ يُخَلِّدُهُمْ فِيهَا وَلَا تَكْلِيفَ لِأَنَّهُ تَعَالَى لَا يُعْطِي جَزَاءَ الْعَامِلِينَ مَنْ لَيْسَ بِعَامِلٍ وَلِأَنَّهُ لَا يُهْمِلُ عِبَادَهُ بَلْ لَا بُدَّ مِنْ تَرْغِيبٍ وَتَرْهِيبٍ وَوَعْدٍ وَوَعِيدٍ، وَسَادِسُهَا: لَا نِزَاعَ فِي أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَلَقَ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي الْأَرْضِ وَلَمْ يَذْكُرْ فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ أَنَّهُ نَقَلَهُ إِلَى السَّمَاءِ، وَلَوْ كَانَ تَعَالَى قَدْ نَقَلَهُ إِلَى السَّمَاءِ لَكَانَ ذَلِكَ أَوْلَى بِالذِّكْرِ لِأَنَّ نَقْلَهُ مِنَ الْأَرْضِ إِلَى السَّمَاءِ مِنْ أَعْظَمِ النِّعَمِ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَحْصُلْ، وَذَلِكَ يُوجِبُ أَنَّ الْمُرَادَ مِنَ الْجَنَّةِ الَّتِي قَالَ اللَّهُ تَعَالَى لَهُ: اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ جَنَّةٌ أُخْرَى غَيْرُ جَنَّةِ الْخُلْدِ «١». الْقَوْلُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ الْجُبَّائِيِّ: أَنَّ تِلْكَ الْجَنَّةَ كَانَتْ فِي السَّمَاءِ السَّابِعَةِ وَالدَّلِيلُ/ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: اهْبِطُوا مِنْها [الْبَقَرَةِ: ٣٨]، ثُمَّ إِنَّ الْإِهْبَاطَ الْأَوَّلَ كَانَ مِنَ السَّمَاءِ السَّابِعَةِ إِلَى السَّمَاءِ الْأُولَى، وَالْإِهْبَاطَ الثَّانِيَ كَانَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ. الْقَوْلُ الثَّالِثُ: وَهُوَ قَوْلُ جُمْهُورِ أَصْحَابِنَا: أَنَّ هَذِهِ الْجَنَّةَ هِيَ دَارُ الثَّوَابِ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ الْأَلِفَ وَاللَّامَ فِي لَفْظِ الْجَنَّةِ لَا يُفِيدَانِ الْعُمُومَ لِأَنَّ سُكْنَى جَمِيعِ الْجِنَانِ مُحَالٌ، فَلَا بُدَّ مِنْ صَرْفِهَا إِلَى الْمَعْهُودِ السَّابِقِ وَالْجَنَّةُ الَّتِي هِيَ الْمَعْهُودَةُ الْمَعْلُومَةُ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ هِيَ دَارُ الثَّوَابِ، فَوَجَبَ صَرْفُ اللَّفْظِ إِلَيْهَا، وَالْقَوْلُ الرَّابِعُ: أَنَّ الْكُلَّ مُمْكِنٌ وَالْأَدِلَّةُ النَّقْلِيَّةُ ضَعِيفَةٌ وَمُتَعَارِضَةٌ فَوَجَبَ التَّوَقُّفُ وَتَرْكُ الْقَطْعِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: قَالَ صَاحِبُ الْكَشَّافِ: السُّكْنَى مِنَ السُّكُونِ لِأَنَّهَا نَوْعٌ مِنَ اللُّبْثِ وَالِاسْتِقْرَارِ وَ «أَنْتَ» تَأْكِيدٌ لِلْمُسْتَكِنَّ فِي «اسْكُنْ» لِيَصِحَّ الْعَطْفُ عَلَيْهِ وَ «رَغَدًا» وَصْفٌ لِلْمَصْدَرِ أَيْ أَكْلًا رَغَدًا وَاسِعًا رَافِهًا وَ «حَيْثُ» لِلْمَكَانِ الْمُبْهَمِ أَيْ أَيَّ مَكَانٍ مِنَ الْجَنَّةِ شِئْتُمَا، فَالْمُرَادُ مِنَ الْآيَةِ إِطْلَاقُ الْأَكْلِ مِنَ الْجَنَّةِ عَلَى وَجْهِ التَّوْسِعَةِ الْبَالِغَةِ حَيْثُ لَمْ يَحْظُرْ عَلَيْهِمَا بَعْضَ الْأَكْلِ وَلَا بَعْضَ الْمَوَاضِعِ حَتَّى لَا يَبْقَى لَهُمَا عُذْرٌ فِي التَّنَاوُلِ مِنْ شَجَرَةٍ وَاحِدَةٍ مِنْ بَيْنِ أشجارها الكثيرة.

(١) يلاحظ أن القول الأول هو قول أبي القاسم البلخي وأبي مسلم الأصفهاني المتقدم، لكن لم يعنون له المصنف رحمه الله تعالى.


الصفحة التالية
Icon