الْمُخَالِفُ فَقَدْ تَمَسَّكَ فِي كُلٍّ وَاحِدٍ مِنَ الْمَوَاضِعِ الْأَرْبَعَةِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا بِآيَاتٍ وَنَحْنُ نُشِيرُ إِلَى مَعَاقِدِهَا وَنُحِيلُ بِالِاسْتِقْصَاءِ عَلَى مَا سَيَأْتِي فِي هَذَا التَّفْسِيرِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى: أَمَّا الْآيَاتُ الَّتِي تَمَسَّكُوا بِهَا فِي بَابِ الِاعْتِقَادِ فَثَلَاثَةٌ، أَوَّلُهَا: تَمَسَّكُوا بِالطَّعْنِ فِي اعْتِقَادِ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِقَوْلِهِ: هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْها زَوْجَها لِيَسْكُنَ إِلَيْها [الْأَعْرَافِ: ١٨٩] إِلَى آخِرِ الْآيَةِ. قَالُوا: لَا شَكَّ أَنَّ النَّفْسَ الْوَاحِدَةَ هِيَ آدَمُ وَزَوْجَهَا الْمَخْلُوقَ مِنْهَا هِيَ حَوَّاءُ، فَهَذِهِ الْكِنَايَاتُ بِأَسْرِهَا عَائِدَةٌ إِلَيْهِمَا فَقَوْلُهُ: جَعَلا لَهُ شُرَكاءَ فِيما آتاهُما فَتَعالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ [الْأَعْرَافِ: ١٩٠] يَقْتَضِي صُدُورَ الشِّرْكِ عَنْهُمَا، وَالْجَوَابُ: لَا نُسَلِّمُ أَنَّ النَّفْسَ الْوَاحِدَةَ هِيَ آدَمُ وَلَيْسَ فِي الْآيَةِ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ بَلْ نَقُولُ: الْخِطَابُ لِقُرَيْشٍ وَهُمْ آلُ قُصَيٍّ وَالْمَعْنَى خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسِ قُصَيٍّ وَجَعَلَ مِنْ جِنْسِهَا زَوْجَةً عَرَبِيَّةً لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا فَلَمَّا آتَاهُمَا مَا طَلَبَا مِنَ الْوَلَدِ الصَّالِحِ سَمَّيَا أَوْلَادَهُمَا الْأَرْبَعَةَ بِعَبْدِ مَنَافٍ وَعَبْدِ الْعُزَّى وَعَبْدِ الدَّارِ وَعَبْدِ قُصَيٍّ، وَالضَّمِيرُ فِي يُشْرِكُونَ لَهُمَا وَلِأَعْقَابِهِمَا فَهَذَا الْجَوَابُ هُوَ الْمُعْتَمَدُ، وَثَانِيهَا: قَالُوا إِنَّ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمْ يَكُنْ عَالِمًا بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ. أَمَّا الْأَوَّلُ: فَلِأَنَّهُ قَالَ فِي الْكَوَاكِبِ هَذَا رَبِّي، [الْأَنْعَامِ: ٧٧]، وَأَمَّا الثَّانِي: فَقَوْلُهُ: أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى قالَ: أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قالَ بَلى وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي [الْبَقَرَةِ: ٢٦٠]، وَالْجَوَابُ: أَمَّا قَوْلُهُ: هَذَا رَبِّي فَهُوَ اسْتِفْهَامٌ عَلَى سَبِيلِ الْإِنْكَارِ، وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي، فَالْمُرَادُ أَنَّهُ لَيْسَ الْخَبَرُ كَالْمُعَايَنَةِ، وَثَالِثُهَا: تَمَسَّكُوا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ فَسْئَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُنَ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكَ لَقَدْ جاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ المُمْتَرِينَ [يُونُسَ: ٩٤]، فَدَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ فِي شَكٍّ مِمَّا أُوحِيَ إِلَيْهِ وَالْجَوَابُ: أَنَّ الْقَلْبَ فِي دَارِ الدُّنْيَا لَا يَنْفَكُّ عَنِ الْأَفْكَارِ الْمُسْتَعْقِبَةِ لِلشُّبَهَاتِ إِلَّا أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَانَ يُزِيلُهَا بِالدَّلَائِلِ.
أَمَّا الْآيَاتُ الَّتِي تَمَسَّكُوا بِهَا فِي بَابِ التَّبْلِيغِ فَثَلَاثَةٌ: أَحَدُهَا: قَوْلُهُ: سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى إِلَّا مَا شاءَ اللَّهُ [الْأَعْلَى: ٦، ٨] فَهَذَا الِاسْتِثْنَاءُ يَدُلُّ عَلَى وُقُوعِ النِّسْيَانِ فِي الْوَحْيِ، الْجَوَابُ: لَيْسَ النَّهْيُ عَنِ النِّسْيَانِ الَّذِي هُوَ ضِدُّ الذِّكْرِ، لِأَنَّ ذَاكَ غَيْرُ دَاخِلٍ فِي الْوُسْعِ بَلْ عَنِ النِّسْيَانِ بِمَعْنَى التَّرْكِ فَنَحْمِلُهُ عَلَى تَرْكِ الْأَوْلَى. وَثَانِيهَا: قَوْلُهُ:
وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلَّا إِذا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ [الْحَجِّ: ٥٢]، / وَالْكَلَامُ عَلَيْهِ مَذْكُورٌ فِي سُورَةِ الْحَجِّ عَلَى الِاسْتِقْصَاءِ، وَثَالِثُهَا: قَوْلُهُ تَعَالَى: عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً إِلَّا مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً، لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسالاتِ رَبِّهِمْ [الْجِنِّ: ٢٦- ٢٨]. قَالُوا: فَلَوْلَا الْخَوْفُ مِنْ وُقُوعِ التَّخْلِيطِ فِي تَبْلِيغِ الْوَحْيِ مِنْ جِهَةِ الْأَنْبِيَاءِ لَمْ يَكُنْ فِي الِاسْتِظْهَارِ بِالرَّصَدِ الْمُرْسَلِ مَعَهُمْ فَائِدَةٌ، وَالْجَوَابُ: لِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْفَائِدَةُ أَنْ يَدْفَعَ ذَلِكَ الرَّصْدُ الشَّيَاطِينَ عَنْ إِلْقَاءِ الْوَسْوَسَةِ. أَمَّا الْآيَاتُ الَّتِي تَمَسَّكُوا بِهَا فِي الْفُتْيَا فَثَلَاثَةٌ، أَحَدُهَا: قَوْلُهُ: وَداوُدَ وَسُلَيْمانَ إِذْ يَحْكُمانِ فِي الْحَرْثِ [الْأَنْبِيَاءِ: ٧٨]، وَقَدْ تَكَلَّمْنَا عَلَيْهِ فِي سُورَةِ الْأَنْبِيَاءِ. وَثَانِيهَا: قَوْلُهُ فِي أُسَارَى بَدْرٍ حِينَ فَادَاهَمُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ [الْأَنْفَالِ: ٦٧]، فَلَوْلَا أَنَّهُ أَخْطَأَ فِي هَذِهِ الْحُكُومَةِ وَإِلَّا لَمَا عُوتِبَ، وَثَالِثُهَا: قَوْلُهُ تَعَالَى: عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ [التَّوْبَةِ: ٤٣]، وَالْجَوَابُ عَنِ الْكُلِّ: أَنَّا نَحْمِلُهُ عَلَى تَرْكِ الْأَوْلَى.
أَمَّا الْآيَاتُ الَّتِي تَمَسَّكُوا بِهَا فِي الْأَفْعَالِ فَكَثِيرَةٌ، أَوَّلُهَا: قِصَّةُ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، تَمَسَّكُوا بِهَا مِنْ سَبْعَةِ أَوْجُهٍ، الْأَوَّلُ: أَنَّهُ كَانَ عَاصِيًا وَالْعَاصِي لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ صَاحِبَ الْكَبِيرَةِ، وَإِنَّمَا قُلْنَا إِنَّهُ كَانَ عَاصِيًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى:


الصفحة التالية
Icon