كَانَتْ عَلَى الْمُخَاطَبِينَ بَلْ كَانَتْ عَلَى آبَائِهِمْ فَكَيْفَ تَكُونُ نِعَمًا عَلَيْهِمْ وَسَبَبًا لِعِظَمِ مَعْصِيَتِهِمْ؟ وَالْجَوَابُ مِنْ وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: لَوْلَا هَذِهِ النِّعَمُ عَلَى آبَائِهِمْ لَمَا بَقُوا فَمَا كَانَ يَحْصُلُ هَذَا النَّسْلُ فَصَارَتِ النِّعَمُ عَلَى الْآبَاءِ كَأَنَّهَا نِعَمٌ عَلَى الْأَبْنَاءِ. وَثَانِيهَا: أَنَّ الِانْتِسَابَ إِلَى الْآبَاءِ وَقَدْ خَصَّهُمُ اللَّهُ تَعَالَى بِنِعَمِ الدِّينِ وَالدُّنْيَا نِعْمَةٌ عَظِيمَةٌ فِي حَقِّ الْأَوْلَادِ. وَثَالِثُهَا: الأولاد متى سمعوا أن الله خَصَّ آبَاءَهُمْ بِهَذِهِ النِّعَمِ لِمَكَانِ طَاعَتِهِمْ وَإِعْرَاضِهِمْ عَنِ الْكُفْرِ وَالْجُحُودِ رَغِبَ الْوَلَدُ فِي هَذِهِ الطَّرِيقَةِ لِأَنَّ الْوَلَدَ مَجْبُولٌ عَلَى التَّشَبُّهِ بِالْأَبِ فِي أَفْعَالِ الْخَيْرِ فَيَصِيرُ هَذَا التَّذْكِيرُ دَاعِيًا إِلَى الِاشْتِغَالِ بِالْخَيْرَاتِ وَالْإِعْرَاضِ عَنِ الشُّرُورِ.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ فَاعْلَمْ أَنَّ الْعَهْدَ يُضَافُ إِلَى الْمُعَاهِدِ وَالْمُعَاهَدِ جَمِيعًا وذكروا في هذا العهد قولين: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ جَمِيعُ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ مِنْ غَيْرِ تَخْصِيصٍ بِبَعْضِ التَّكَالِيفِ دُونَ بَعْضٍ ثُمَّ فِيهِ رِوَايَاتٌ. إِحْدَاهَا: أَنَّهُ تَعَالَى جَعَلَ تَعْرِيفَهُ إِيَّاهُمْ نِعَمَهُ عَهْدًا لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ حَيْثُ يَلْزَمُهُمُ الْقِيَامُ بِشُكْرِهَا كَمَا يَلْزَمُهُمُ الْوَفَاءُ بِالْعَهْدِ وَالْمِيثَاقِ، وَقَوْلُهُ: أُوفِ بِعَهْدِكُمْ أَرَادَ بِهِ الثَّوَابَ وَالْمَغْفِرَةَ. فَجَعَلَ الْوَعْدَ بِالثَّوَابِ شَبِيهًا بِالْعَهْدِ مِنْ حَيْثُ اشْتِرَاكُهُمَا فِي أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الْإِخْلَالُ بِهِ. ثَانِيهَا: قَالَ الْحَسَنُ: الْمُرَادُ مِنْهُ الْعَهْدُ الَّذِي أَخَذَهُ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَبَعَثْنا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً، وَقالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكاةَ إِلَى قَوْلِهِ: وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ [الْمَائِدَةِ: ١٢] فَمَنْ وَفَّى لِلَّهِ بِعَهْدِهِ وَفَّى اللَّهُ لَهُ بِعَهْدِهِ، وَثَالِثُهَا: وَهُوَ قَوْلُ جُمْهُورِ الْمُفَسِّرِينَ أَنَّ الْمُرَادَ أَوْفُوا بِمَا أَمَرْتُكُمْ بِهِ مِنَ الطَّاعَاتِ وَنَهَيْتُكُمْ عَنْهُ مِنَ الْمَعَاصِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ، أَيْ أَرْضَى عَنْكُمْ وَأُدْخِلْكُمُ الْجَنَّةَ وَهُوَ الَّذِي حَكَاهُ الضَّحَّاكُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَتَحْقِيقُهُ مَا جَاءَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ اللَّهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بايَعْتُمْ بِهِ [التَّوْبَةِ: ١١١].
الْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ هَذَا الْعَهْدِ مَا أَثْبَتَهُ فِي الْكُتُبِ الْمُتَقَدِّمَةِ مِنْ وَصْفِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنَّهُ سَيَبْعَثُهُ عَلَى مَا صَرَّحَ بِذَلِكَ فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ بِقَوْلِهِ: وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ بَنِي/ إِسْرائِيلَ إِلَى قَوْلِهِ: لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ [الْمَائِدَةِ: ١٢] وَقَالَ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ: وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُها لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِنا يُؤْمِنُونَ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ
[الْأَعْرَافِ: ١٥٦- ١٥٧] وَأَمَّا عَهْدُ اللَّهِ مَعَهُمْ فَهُوَ أَنْ يُنْجِزَ لَهُمْ مَا وَعَدَهُمْ مِنْ وَضْعِ مَا كَانَ عَلَيْهِمْ مِنَ الْإِصْرِ وَالْأَغْلَالِ الَّتِي كَانَتْ فِي أَعْنَاقِهِمْ، وَقَالَ: وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ لَما آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ [آلِ عِمْرَانَ: ٨١] الْآيَةَ. وَقَالَ: وَإِذْ قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ [الصَّفِّ: ٦]. وَقَالَ ابْنُ عباس: إن الله تعالى كان عَهِدَ إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي التَّوْرَاةِ أَنِّي بَاعِثٌ مِنْ بَنِي إِسْمَاعِيلَ نَبِيًّا أُمِّيًّا فَمَنْ تَبِعَهُ وَصَدَّقَ بِالنُّورِ الَّذِي يَأْتِي بِهِ- أَيْ بِالْقُرْآنِ- غَفَرْتُ لَهُ ذَنْبَهُ وَأَدْخَلْتُهُ الْجَنَّةَ وَجَعَلْتُ لَهُ أَجْرَيْنِ، أَجْرًا بِاتِّبَاعِ مَا جَاءَ بِهِ مُوسَى وَجَاءَتْ بِهِ سَائِرُ أَنْبِيَاءِ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَأَجْرًا بِاتِّبَاعِ مَا جَاءَ بِهِ مُحَمَّدٌ النَّبِيُّ الْأُمِّيُّ مِنْ وَلَدِ إِسْمَاعِيلَ وَتَصْدِيقُ هَذَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ [الْقَصَصِ: ٥٢] إِلَى قَوْلِهِ: أُولئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِما صَبَرُوا [الْقَصَصِ: ٥٤] وَكَانَ عَلِيُّ بْنُ عِيسَى يَقُولُ تَصْدِيقُ ذَلِكَ فِي قوله تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ


الصفحة التالية
Icon