[الْحَدِيدِ: ٢٨] وَتَصْدِيقُهُ أَيْضًا فِيمَا
رَوَى أَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «ثَلَاثَةٌ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمَنَ بِعِيسَى ثُمَّ آمَنَ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَهُ أَجْرَانِ، وَرَجُلٌ أَدَّبَ أَمَتَهُ فَأَحْسَنَ تَأْدِيبَهَا وَعَلَّمَهَا فَأَحْسَنَ تَعْلِيمَهَا ثُمَّ أَعْتَقَهَا وَتَزَوَّجَهَا فَلَهُ أَجْرَانِ، وَرَجُلٌ أَطَاعَ اللَّهَ وَأَطَاعَ سَيِّدَهُ فَلَهُ أَجْرَانِ»
بَقِيَ هاهنا سُؤَالَانِ:
السُّؤَالُ الْأَوَّلُ: لَوْ كَانَ الْأَمْرُ كَمَا قُلْتُمْ فَكَيْفَ يَجُوزُ مِنْ جَمَاعَتِهِمْ جَحْدَهُ؟ وَالْجَوَابُ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ:
أَنَّ هَذَا الْعِلْمَ كَانَ حَاصِلًا عِنْدَ الْعُلَمَاءِ بِكُتُبِهِمْ لَكِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُمُ الْعَدَدُ الْكَثِيرُ فَجَازَ مِنْهُمْ كِتْمَانُهُ. الثَّانِي: أَنَّ ذَلِكَ النَّصَّ كَانَ نَصًّا خَفِيًّا لَا جَلِيًّا فَجَازَ وُقُوعُ الشُّكُوكِ وَالشُّبُهَاتِ فِيهِ.
السُّؤَالُ الثَّانِي: الشَّخْصُ الْمُبَشَّرُ بِهِ فِي هَذِهِ الْكُتُبِ إِمَّا أَنْ يَكُونَ قَدْ ذُكِرَ فِي هَذِهِ الْكُتُبِ وَقْتُ خُرُوجِهِ وَمَكَانُ خُرُوجِهِ وَسَائِرُ التَّفَاصِيلِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِذَلِكَ أَوْ لَمْ يُذْكَرْ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ، فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ النَّصُّ نَصًّا جَلِيًّا وَارِدًا فِي كُتُبٍ مَنْقُولَةٍ إِلَى أَهْلِ الْعِلْمِ بِالتَّوَاتُرِ فَكَانَ يَمْتَنِعُ قُدْرَتُهُمْ عَلَى الْكِتْمَانِ وَكَانَ يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مَعْلُومًا بِالضَّرُورَةِ مِنْ دِينِ الْأَنْبِيَاءِ الْمُتَقَدِّمِينَ. وَإِنْ كَانَ الثَّانِي لَمْ يَدُلَّ ذَلِكَ النَّصُّ عَلَى نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِاحْتِمَالِ أَنْ يَقُولُوا: إِنَّ ذَلِكَ الْمُبَشَّرَ بِهِ سَيَجِيءُ بَعْدَ ذَلِكَ عَلَى مَا هُوَ قَوْلُ جُمْهُورِ الْيَهُودِ. وَالْجَوَابُ أَنَّ الَّذِينَ حَمَلُوا قَوْلَهُ تَعَالَى: وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ عَلَى الْأَمْرِ بِالتَّأَمُّلِ فِي الدَّلَائِلِ الدَّالَّةِ عَلَى التَّوْحِيدِ وَالنُّبُوَّةِ عَلَى مَا شَرَحْنَاهُ فِي الْقَوْلِ الْأَوَّلِ إِنَّمَا اخْتَارُوهُ لِقُوَّةِ هَذَا السُّؤَالِ، فَأَمَّا مَنْ أَرَادَ أَنْ يَنْصُرَ الْقَوْلَ الثَّانِيَ فَإِنَّهُ يُجِيبُ عَنْهُ بِأَنَّ تَعْيِينَ الزَّمَانِ وَالْمَكَانِ لَمْ يَكُنْ مَنْصُوصًا عَلَيْهِ نَصًّا جَلِيًّا يَعْرِفُهُ كُلُّ أَحَدٍ بَلْ كَانَ مَنْصُوصًا/ عَلَيْهِ نَصًّا خَفِيًّا فَلَا جَرَمَ لَمْ يَلْزَمْ أَنْ يُعْلَمَ ذَلِكَ بِالضَّرُورَةِ مِنْ دِينِ الْأَنْبِيَاءِ الْمُتَقَدِّمِينَ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ وَلْنَذْكُرِ الْآنَ بَعْضَ مَا جَاءَ فِي كُتُبِ الْأَنْبِيَاءِ الْمُتَقَدِّمِينَ مِنَ الْبِشَارَةِ بِمَقْدَمِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَالْأَوَّلُ: جَاءَ فِي الْفَصْلِ التَّاسِعِ مِنَ السِّفْرِ الْأَوَّلِ مِنَ التَّوْرَاةِ أَنَّ هَاجَرَ لَمَّا غَضِبَتْ عَلَيْهَا سَارَّةُ تَرَاءَى لَهَا مَلَكٌ [مِنْ قِبَلِ] اللَّهِ فَقَالَ لَهَا يَا هَاجَرُ أَيْنَ تُرِيدِينَ وَمِنْ أَيْنَ أَقْبَلْتِ؟ قَالَتْ:
أَهْرُبُ مِنْ سَيِّدَتِي سَارَّةَ فَقَالَ لَهَا: ارْجِعِي إِلَى سَيِّدَتِكِ وَاخْفِضِي لَهَا فَإِنَّ اللَّهَ سَيُكْثِرُ زَرْعَكِ وَذُرِّيَّتَكِ وَسَتَحْبَلِينَ وَتَلِدِينَ ابْنًا وَتُسَمِّينَهُ إِسْمَاعِيلَ مِنْ أَجْلِ أَنَّ اللَّهَ سَمِعَ تَبَتُّلَكِ وَخُشُوعَكِ وَهُوَ يَكُونُ عَيْنَ النَّاسِ وَتَكُونُ يَدُهُ فَوْقَ الْجَمِيعِ وَيَدُ الْجَمِيعِ مَبْسُوطَةٌ إِلَيْهِ بِالْخُضُوعِ وَهُوَ يَشْكُرُ عَلَى رَغْمِ جَمِيعِ إِخْوَتِهِ.
وَاعْلَمْ أَنَّ الِاسْتِدْلَالَ بِهَذَا الْكَلَامِ أَنَّ هَذَا الْكَلَامَ خَرَجَ مَخْرَجَ الْبِشَارَةِ وَلَيْسَ يَجُوزُ أَنْ يُبَشِّرَ الْمَلَكُ مِنْ قِبَلِ اللَّهِ بِالظُّلْمِ وَالْجَوْرِ وَبِأَمْرٍ لَا يَتِمُّ إِلَّا بِالْكَذِبِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى وَمَعْلُومٌ أَنَّ إِسْمَاعِيلَ وَوَلَدَهُ لَمْ يَكُونُوا مُتَصَرِّفِينَ فِي الْكُلِّ أَعْنِي فِي مُعْظَمِ الدُّنْيَا وَمُعْظَمِ الْأُمَمِ وَلَا كَانُوا مُخَالِطِينَ لِلْكُلِّ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِيلَاءِ إِلَّا بِالْإِسْلَامِ لِأَنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ الْإِسْلَامِ مَحْصُورِينَ فِي الْبَادِيَةِ لَا يَتَجَاسَرُونَ عَلَى الدُّخُولِ فِي أَوَائِلِ الْعِرَاقِ وَأَوَائِلِ الشَّامِ إِلَّا عَلَى أَتَمِّ خَوْفٍ، فَلَمَّا جَاءَ الْإِسْلَامُ اسْتَوْلَوْا عَلَى الشَّرْقِ وَالْغَرْبِ بِالْإِسْلَامِ وَمَازَجُوا الْأُمَمَ وَوَطِئُوا بِلَادَهُمْ وَمَازَجَتْهُمُ الْأُمَمُ وَحَجُّوا بَيْتَهُمْ وَدَخَلُوا بَادِيَتَهُمْ بِسَبَبِ مُجَاوَرَةِ الْكَعْبَةِ، فَلَوْ لَمْ يَكُنِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَادِقًا لَكَانَتْ هَذِهِ الْمُخَالَطَةُ مِنْهُمْ لِلْأُمَمِ وَمِنَ الْأُمَمِ لَهُمْ مَعْصِيَةً لِلَّهِ تَعَالَى وَخُرُوجًا عَنْ طَاعَتِهِ إِلَى طَاعَةِ الشَّيْطَانِ وَاللَّهُ يَتَعَالَى عَنْ أَنْ يُبَشِّرَ بِمَا هَذَا سَبِيلُهُ.
وَالثَّانِي: جَاءَ فِي الْفَصْلِ الْحَادِي عَشَرَ مِنَ السِّفْرِ الْخَامِسِ: «إِنَّ الرَّبَّ إِلَهَكُمْ يُقِيمُ لَكُمْ نَبِيًّا مِثْلِي مِنْ بَيْنِكُمْ وَمِنْ إِخْوَانِكُمْ»، وَفِي هَذَا الْفَصْلِ أَنَّ الرَّبَّ تَعَالَى قَالَ لِمُوسَى: «إِنِّي مُقِيمٌ لَهُمْ نَبِيًّا مِثْلَكَ مِنْ بَيْنِ إِخْوَانِهِمْ وَأَيُّمَا رَجُلٍ لَمْ يَسْمَعْ كَلِمَاتِي الَّتِي يُؤَدِّيهَا عَنِّي ذَلِكَ الرَّجُلُ بِاسْمِي أَنَا أَنْتَقِمُ مِنْهُ». وَهَذَا الْكَلَامُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ النَّبِيَّ الَّذِي يُقِيمُهُ اللَّهُ تَعَالَى لَيْسَ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَمَا أَنَّ مَنْ قَالَ لِبَنِي هَاشِمٍ: إِنَّهُ سَيَكُونُ مِنْ إِخْوَانِكُمْ إِمَامٌ، عَقَلَ أَنَّهُ لَا يَكُونُ مِنْ