بَنِي هَاشِمٍ، ثُمَّ إِنَّ يَعْقُوبَ عَلَيْهِ السَّلَامُ هُوَ إِسْرَائِيلُ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ أَخٌ إِلَّا الْعِيصَ وَلَمْ يَكُنْ لِلْعِيصِ وَلَدٌ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ سِوَى أَيُّوبَ وَإِنَّهُ كَانَ قَبْلَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ مُبَشِّرًا بِهِ، وَأَمَّا إِسْمَاعِيلُ فَإِنَّهُ كَانَ أخاً لإسحاق وَالِدِ يَعْقُوبَ ثُمَّ إِنَّ كُلَّ نَبِيٍّ بُعِثَ بَعْدَ مُوسَى كَانَ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَالنَّبِيُّ عَلَيْهِ السَّلَامُ مَا كَانَ مِنْهُمْ لَكِنَّهُ كَانَ مِنْ إِخْوَانِهِمْ لِأَنَّهُ مِنْ وَلَدِ إِسْمَاعِيلَ الَّذِي هو أخو إسحاق عَلَيْهِمُ السَّلَامُ. فَإِنْ قِيلَ قَوْلُهُ: «مِنْ بَيْنِكُمْ» يَمْنَعُ مِنْ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَنَّهُ لَمْ يَقُمْ مِنْ بَيْنِ بَنِي إِسْرَائِيلَ. قُلْنَا: بَلْ قَدْ قَامَ مِنْ بَيْنِهِمْ لِأَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ ظَهَرَ بِالْحِجَازِ فَبُعِثَ بِمَكَّةَ وَهَاجَرَ إِلَى الْمَدِينَةِ وَبِهَا تَكَامَلَ أَمْرُهُ. وَقَدْ كَانَ حَوْلَ الْمَدِينَةِ بِلَادُ الْيَهُودِ كَخَيْبَرَ وَبَنِي قَيْنُقَاعَ وَالنَّضِيرِ وَغَيْرِهِمْ، وَأَيْضًا فَإِنَّ الْحِجَازَ يُقَارِبُ الشَّامَ وَجُمْهُورُ الْيَهُودِ كَانُوا إِذْ ذَاكَ بِالشَّامِ، فَإِذَا قَامَ مُحَمَّدٌ بِالْحِجَازِ فَقَدْ قَامَ مِنْ بَيْنِهِمْ، وَأَيْضًا فَإِنَّهُ إِذَا كَانَ مِنْ إِخْوَانِهِمْ فَقَدْ قَامَ مِنْ بَيْنِهِمْ فَإِنَّهُ لَيْسَ بِبَعِيدٍ مِنْهُمْ.
وَالثَّالِثُ: قَالَ فِي الْفَصْلِ الْعِشْرِينَ مِنْ هَذَا السِّفْرِ: «إِنَّ/ الرَّبَّ تَعَالَى جَاءَ فِي طُورِ سَيْنَاءَ وَطَلَعَ لَنَا مِنْ سَاعِيرَ وَظَهَرَ مِنْ جِبَالِ فَارَانَ وَصَفَّ عَنْ يَمِينِهِ عُنْوَانَ الْقِدِّيسِينَ فَمَنَحَهُمُ الْعِزَّ وَحَبَّبَهُمْ إِلَى الشُّعُوبِ وَدَعَا لِجَمِيعِ قِدِّيسِيهِ بِالْبَرَكَةِ، وَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ: أَنَّ جَبَلَ فَارَانَ هُوَ بِالْحِجَازِ لِأَنَّ فِي التَّوْرَاةِ أَنَّ إِسْمَاعِيلَ تَعَلَّمَ الرَّمْيَ فِي بَرِّيَّةِ فَارَانَ، وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ إِنَّمَا سَكَنَ بِمَكَّةَ. إِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ: إِنَّ قَوْلَهُ: «فَمَنَحَهُمُ الْعِزَّ» لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ إِسْمَاعِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ لِأَنَّهُ لَمْ يَحْصُلْ عَقِيبَ سُكْنَى إِسْمَاعِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ هُنَاكَ عِزٌّ وَلَا اجْتَمَعَ هُنَاكَ رَبَوَاتُ الْقِدِّيسِينَ فَوَجَبَ حَمْلُهُ عَلَى مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ. قَالَتِ الْيَهُودُ: الْمُرَادُ أَنَّ النَّارَ لَمَّا ظَهَرَتْ مِنْ طُورِ سَيْنَاءَ ظَهَرَتْ مِنْ سَاعِيرَ نَارٌ أَيْضًا وَمِنْ جَبَلِ فَارَانَ أَيْضًا فَانْتَشَرَتْ فِي هَذِهِ الْمَوَاضِعِ قُلْنَا هَذَا لَا يَصِحُّ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَوْ خَلَقَ نَارًا فِي مَوْضِعٍ فَإِنَّهُ لَا يُقَالُ جَاءَ اللَّهُ مِنْ ذَلِكَ إِذَا تَابَعَ ذَلِكَ الْوَاقِعَةَ وَحْيٌ نَزَلَ فِي ذَلِكَ الْمَوْضِعِ أَوْ عُقُوبَةٌ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ. وَعِنْدَكُمْ أَنَّهُ لَمْ يَتْبَعْ ظُهُورَ النَّارِ وَحْيٌ وَلَا كَلَامٌ إِلَّا مِنْ طُورِ سَيْنَاءَ فَمَا كَانَ يَنْبَغِي إِلَّا أَنْ يُقَالَ ظَهَرَ مِنْ سَاعِيرَ وَمِنْ جَبَلِ فَارَانَ فَلَا يَجُوزُ وُرُودُهُ كَمَا لَا يُقَالُ جَاءَ اللَّهُ مِنَ الْغَمَامِ إِذَا ظَهَرَ فِي الْغَمَامِ احْتِرَاقٌ وَنِيرَانٌ كَمَا يَتَّفِقُ ذَلِكَ فِي أَيَّامِ الرَّبِيعِ، وَأَيْضًا فَفِي كِتَابِ حَبْقُوقَ بَيَانُ مَا قُلْنَا وَهُوَ جَاءَ اللَّهُ مِنْ طُورِ سَيْنَاءَ وَالْقُدْسِ مِنْ جَبَلِ فَارَانَ، وَانْكَشَفَتِ السَّمَاءُ مِنْ بَهَاءِ مُحَمَّدٍ وَامْتَلَأَتِ الْأَرْضُ مِنْ حَمْدِهِ. يَكُونُ شُعَاعُ مَنْظَرِهِ مِثْلَ النُّورِ يَحْفَظُ بَلَدَهُ بِعِزِّهِ تَسِيرُ الْمَنَايَا أَمَامَهُ وَيَصْحَبُ سِبَاعُ الطَّيْرِ أَجْنَادَهُ قَامَ فَمَسَحَ الْأَرْضَ وَتَأَمَّلَ الْأُمَمَ وَبَحَثَ عَنْهَا فَتَضَعْضَعَتِ الْجِبَالُ الْقَدِيمَةُ وَاتَّضَعَتِ الرَّوَابِي وَالدَّهْرِيَّةُ، وَتَزَعْزَعَتْ سُتُورُ أَهْلِ مدين ركبت الْخُيُولَ، وَعَلَوْتَ مَرَاكِبَ الِانْقِيَادِ وَالْغَوْثِ وَسَتَنْزِعُ فِي قِسِيِّكَ إِغْرَاقًا وَنَزْعًا وَتَرْتَوِي السِّهَامُ بِأَمْرِكَ يَا مُحَمَّدُ ارْتِوَاءً وَتَخُورُ الْأَرْضُ بِالْأَنْهَارِ، وَلَقَدْ رَأَتْكَ الْجِبَالُ فَارْتَاعَتْ وَانْحَرَفَ عَنْكَ شُؤْبُوبُ السَّيْلِ وَنَفَرَتِ الْمَهَارِي نَفِيرًا وَرُعْبًا وَرَفَعَتْ أَيْدِيَهَا وَجَلًا وَفَرَقًا وَتَوَقَّفَتِ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ عَنْ مَجْرَاهُمَا وَسَارَتِ الْعَسَاكِرُ فِي بَرْقِ سِهَامِكَ وَلَمَعَانِ بَيَانِكَ تُدَوِّخُ الْأَرْضَ غَضَبًا وَتَدُوسُ الْأُمَمَ زَجْرًا لِأَنَّكَ ظَهَرْتَ بِخَلَاصِ أُمَّتِكَ وَإِنْقَاذِ تُرَابِ آبَائِكَ». هَكَذَا نُقِلَ عَنِ ابْنِ رَزِينٍ الطَّبَرِيِّ. أَمَّا النَّصَارَى فَقَالَ أَبُو الْحُسَيْنِ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي كِتَابِ الْغَرَرِ قَدْ رَأَيْتُ فِي نُقُولِهِمْ: «وَظَهَرَ مِنْ جِبَالِ فَارَانَ لَقَدْ تَقَطَّعَتِ السَّمَاءُ مِنْ بَهَاءِ مُحَمَّدٍ الْمَحْمُودِ وَتَرْتَوِي السِّهَامُ بِأَمْرِكَ الْمَحْمُودِ لِأَنَّكَ ظَهَرْتَ بِخَلَاصِ أُمَّتِكَ وَإِنْقَاذِ مَسِيحِكَ»، فَظَهَرَ بِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى فِي التَّوْرَاةِ: «ظَهَرَ الرَّبُّ مِنْ جِبَالِ فَارَانَ» لَيْسَ مَعْنَاهُ ظُهُورُ النَّارِ مِنْهُ بَلْ مَعْنَاهُ ظُهُورُ شَخْصٍ مَوْصُوفٍ بِهَذِهِ الصِّفَاتِ وَمَا ذَاكَ إِلَّا رَسُولُنَا مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَإِنْ قَالُوا الْمُرَادُ مَجِيءُ اللَّهِ تَعَالَى وَلِهَذَا قَالَ فِي آخِرِ الْكَلَامِ: «وَإِنْقَاذِ مَسِيحِكَ» قُلْنَا لَا يَجُوزُ وَصْفُ اللَّهِ تَعَالَى بِأَنَّهُ يَرْكَبُ الْخُيُولَ وَبِأَنَّ شُعَاعَ مَنْظَرِهِ مِثْلُ النُّورِ وَبِأَنَّهُ جَازَ الْمَشَاعِرَ الْقَدِيمَةَ، أَمَّا قَوْلُهُ: (وَإِنْقَاذِ مَسِيحِكِ) فَإِنَّ مُحَمَّدًا عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنْقَذَ الْمَسِيحَ مِنْ كَذِبِ الْيَهُودِ


الصفحة التالية
Icon