وَالنَّصَارَى. وَالرَّابِعُ: مَا جَاءَ فِي كِتَابِ أَشْعِيَاءَ فِي الْفَصْلِ الثَّانِي وَالْعِشْرِينَ مِنْهُ: «قُومِي فَأَزْهِرِي مِصْبَاحَكِ، يُرِيدُ مَكَّةَ، فَقَدْ دَنَا وَقْتُكِ وَكَرَامَةُ اللَّهِ تَعَالَى طَالِعَةٌ عَلَيْكِ فَقَدْ تَجَلَّلَ الْأَرْضَ الظَّلَامُ وَغَطَّى عَلَى الْأُمَمِ الضَّبَابُ وَالرَّبُّ يُشْرِقُ عَلَيْكِ إِشْرَاقًا وَيُظْهِرُ كَرَامَتَهُ/ عَلَيْكِ تَسِيرُ الْأُمَمُ إِلَى نُورِكِ وَالْمُلُوكُ إِلَى ضَوْءِ طُلُوعِكِ وَارْفَعِي بَصَرَكِ إِلَى مَا حَوْلَكِ وَتَأَمَّلِي فَإِنَّهُمْ مُسْتَجْمَعُونَ عِنْدَكِ وَيَحُجُّونَكِ وَيَأْتِيكِ وَلَدُكِ مِنْ بَلَدٍ بَعِيدٍ لِأَنَّكِ أُمُّ الْقُرَى فَأَوْلَادُ سَائِرِ الْبِلَادِ كَأَنَّهُمْ أَوْلَادُ مَكَّةَ وَتَتَزَيَّنُ ثِيَابُكِ عَلَى الْأَرَائِكِ وَالسُّرُرِ حِينَ تَرَيْنَ ذَلِكَ تُسَرِّينَ وَتَبْتَهِجِينَ مِنْ أَجْلِ أَنَّهُ يَمِيلُ إِلَيْكِ ذَخَائِرُ الْبَحْرِ وَيَحُجُّ إِلَيْكِ عَسَاكِرُ الْأُمَمِ وَيُسَاقُ إِلَيْكِ كِبَاشُ مَدْيَنَ وَيَأْتِيكِ أَهْلُ سَبَأٍ وَيَتَحَدَّثُونَ بِنِعَمِ اللَّهِ وَيُمَجِّدُونَهُ وَتَسِيرُ إِلَيْكِ أَغْنَامُ فَارَانَ وَيُرْفَعُ إِلَى مَذْبَحِي مَا يُرْضِينِي وَأُحْدِثُ حِينَئِذٍ لِبَيْتِ مَحْمَدَتِي حَمْدًا». فَوَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ أَنَّ هَذِهِ الصِّفَاتِ كُلَّهَا مَوْجُودَةٌ لِمَكَّةَ فَإِنَّهُ قَدْ حَجَّ إِلَيْهَا عَسَاكِرُ الْأُمَمِ وَمَالَ إِلَيْهَا ذَخَائِرُ الْبَحْرِ وَقَوْلُهُ:
«وَأُحْدِثُ لِبَيْتِ مَحْمَدَتِي حَمْدًا» مَعْنَاهُ أَنَّ الْعَرَبَ كَانَتْ تُلَبِّي قَبْلَ الْإِسْلَامِ فَتَقُولُ لَبَّيْكَ لَا شَرِيكَ لَكَ إِلَّا شَرِيكٌ هُوَ لَكَ تَمْلِكُهُ وَمَا مَلَكَ، ثُمَّ صَارَ فِي الْإِسْلَامِ: لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ، لَا شَرِيكَ لَكَ لَبَّيْكَ، فَهَذَا هُوَ الْحَمْدُ الَّذِي جَدَّدَهُ اللَّهُ لِبَيْتِ مَحْمَدَتِهِ. فَإِنْ قِيلَ الْمُرَادُ: بِذَلِكَ بَيْتُ الْمَقْدِسِ وَسَيَكُونُ ذَلِكَ فِيمَا بَعْدُ. قُلْنَا لَا يَجُوزُ أَنْ يَقُولَ الْحَكِيمُ:
«قَدْ دَنَا وَقْتُكِ» مَعَ أَنَّهُ مَا دَنَا بَلِ الَّذِي دَنَا أَمْرٌ لَا يُوَافِقُ رِضَاهُ وَمَعَ ذَلِكَ لَا يُحَذِّرُ مِنْهُ وَأَيْضًا فَإِنَّ كِتَابَ أَشْعِيَاءَ مَمْلُوءٌ مِنْ ذِكْرِ الْبَادِيَةِ وَصِفَتِهَا، وَذَلِكَ يُبْطِلُ قَوْلَهُمْ. وَالْخَامِسُ: رَوَى السَّمَّانُ فِي تَفْسِيرِهِ فِي السِّفْرِ الْأَوَّلِ مِنَ التَّوْرَاةِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَوْحَى إِلَى إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ: «قَدْ أَجَبْتُ دُعَاكَ فِي إِسْمَاعِيلَ وَبَارَكْتُ عَلَيْهِ فَكَبَّرْتُهُ وَعَظَّمْتُهُ جِدًّا جِدًّا وَسَيَلِدُ اثْنَيْ عَشَرَ عَظِيمًا وَأَجْعَلُهُ لِأُمَّةٍ عَظِيمَةٍ» وَالِاسْتِدْلَالُ بِهِ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ فِي وَلَدِ إِسْمَاعِيلَ مَنْ كَانَ لِأُمَّةٍ عَظِيمَةٍ غَيْرَ نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَمَّا دُعَاءُ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَإِسْمَاعِيلَ فَكَانَ لِرَسُولِنَا عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَمَّا فَرَغَا مِنْ بِنَاءِ الْكَعْبَةِ وَهُوَ قَوْلُهُ: رَبَّنا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [الْبَقَرَةِ: ١٢٩] وَلِهَذَا
كَانَ يَقُولُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «أَنَا دَعْوَةُ أَبِي إِبْرَاهِيمَ وَبِشَارَةُ عِيسَى»
وَهُوَ قَوْلُهُ: وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ [الصَّفِّ: ٦] فَإِنَّهُ مُشْتَقٌّ مِنَ الْحَمْدِ وَالِاسْمُ الْمُشْتَقُّ مِنَ الْحَمْدِ لَيْسَ إِلَّا لِنَبِيِّنَا فَإِنَّ اسْمَهُ مُحَمَّدٌ وَأَحْمَدُ وَمَحْمُودٌ. قِيلَ إِنَّ صِفَتَهُ فِي التَّوْرَاةِ أَنَّ مَوْلِدَهُ بِمَكَّةَ وَمَسْكَنَهُ بِطِيبَةَ وَمُلْكَهُ بِالشَّامِ وَأُمَّتَهُ الْحَمَّادُونَ. وَالسَّادِسُ: قَالَ الْمَسِيحُ لِلْحَوَارِيِّينَ: «أَنَا أَذْهَبُ وَسَيَأْتِيكُمُ الْفَارْقَلِيطْ رَوُحُ الْحَقِّ الَّذِي لَا يَتَكَلَّمُ مِنْ قِبَلِ نَفْسِهِ إِنَّمَا يَقُولُ كَمَا يُقَالُ لَهُ» وَتَصْدِيقُ ذَلِكَ: إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحى إِلَيَّ [الأنعام: ٥٠] وَقَوْلُهُ: قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحى إِلَيَّ [يُونُسَ: ١٥] أَمَّا «الْفَارْقَلِيطْ» فَفِي تَفْسِيرِهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ الشَّافِعُ الْمُشَفَّعُ وَهَذَا أَيْضًا صِفَتُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، الثَّانِي: قَالَ بَعْضُ النَّصَارَى: الْفَارْقَلِيطْ هُوَ الَّذِي يُفَرِّقُ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ وَكَانَ فِي الْأَصْلِ فَارُوقٌ كَمَا يُقَالُ رَاوُوقٌ لِلَّذِي يُرَوَّقُ بِهِ وَأَمَّا «لِيطْ» فَهُوَ التَّحْقِيقُ فِي الْأَمْرِ كَمَا يُقَالُ شَيْبٌ أَشْيَبُ ذُو شَيْبٍ وَهَذَا أَيْضًا صِفَةُ شَرْعِنَا لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي يُفَرِّقُ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ. وَالسَّابِعُ: قَالَ دَانْيَالُ لِبُخْتَنَصَّرَ حِينَ سَأَلَهُ عَنِ الرُّؤْيَا الَّتِي كَانَ رَآهَا مِنْ غَيْرِ أَنْ قَصَّهَا عَلَيْهِ: رَأَيْتَ أَيُّهَا الْمَلِكُ مَنْظَرًا هَائِلًا رَأْسُهُ مِنَ الذَّهَبِ الْأَبْرِيزِ وَسَاعِدُهُ مِنَ الْفِضَّةِ وَبَطْنُهُ وَفَخِذَاهُ مِنْ نُحَاسٍ وَسَاقَاهُ مِنْ حَدِيدٍ وَبَعْضُهَا/ مِنْ خَزَفٍ وَرَأَيْتَ حَجَرًا يَقْطَعُ مِنْ غَيْرِ قَاطِعٍ وَصَكَّ رِجْلَ ذَلِكَ الصَّنَمَ وَدَقَّهَا دَقًّا شَدِيدًا فَتَفَتَّتَ الصَّنَمُ كُلُّهُ حَدِيدُهُ وَنُحَاسُهُ وَفِضَّتُهُ وَذَهَبُهُ وَصَارَتْ رُفَاتًا وَعَصَفَتْ بِهَا الرِّيَاحُ فَلَمْ يُوجَدْ لَهَا أَثَرٌ وَصَارَ ذَلِكَ الْحَجَرُ الَّذِي صَكَّ ذَلِكَ الرِّجْلَ مِنْ ذَلِكَ الصَّنَمِ جَبَلًا عَالِيًا امْتَلَأَتْ بِهِ الْأَرْضُ فَهَذَا رُؤْيَاكَ أَيُّهَا الْمَلِكُ. وَأَمَّا تَفْسِيرُهَا فَأَنْتَ الرَّأْسُ الَّذِي رَأَيْتَهُ مِنَ الذَّهَبِ وَيَقُومُ بَعْدَكَ مَمْلَكَةٌ أُخْرَى دُونَكَ وَالْمَمْلَكَةُ الثَّالِثَةُ الَّتِي