عَهِدَ إِلَيْنا
[آلِ عِمْرَانَ: ١٨٣] يَعْنِي أَمَرَنَا، وَمِنْهُ عُهُودُ الْخُلَفَاءِ إِلَى أُمَرَائِهِمْ وَقُضَاتِهِمْ إِذَا ثَبَتَ أَنَّ عَهْدَ اللَّهِ هُوَ أَمْرُهُ فَنَقُولُ: لَا يَخْلُو قَوْلُهُ لَا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ مِنْ أَنْ يُرِيدَ أَنَّ الظَّالِمِينَ غَيْرُ مَأْمُورِينَ، وَأَنَّ الظَّالِمِينَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونُوا بِمَحَلِّ مَنْ يُقْبَلُ مِنْهُمْ أَوَامِرُ اللَّهِ تَعَالَى، وَلَمَّا بَطَلَ الْوَجْهُ الْأَوَّلُ لِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ عَلَى أَنَّ أَوَامِرَ اللَّهِ تَعَالَى لَازِمَةٌ لِلظَّالِمِينَ كَلُزُومِهَا لِغَيْرِهِمْ ثَبْتَ الْوَجْهُ الْآخَرُ، وَهُوَ أَنَّهُمْ غَيْرُ مُؤْتَمَنِينَ عَلَى أَوَامِرِ اللَّهِ تَعَالَى وَغَيْرُ مُقْتَدًى بِهِمْ فِيهَا فَلَا يَكُونُونَ أَئِمَّةً فِي الدِّينِ، فَثَبَتَ بِدَلَالَةِ الْآيَةِ بُطْلَانُ إِمَامَةِ الْفَاسِقِ،
قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «لَا طَاعَةَ لِمَخْلُوقٍ فِي مَعْصِيَةِ الْخَالِقِ»،
وَدَلَّ أَيْضًا عَلَى أَنَّ الْفَاسِقَ لَا يَكُونُ حَاكِمًا، وَأَنَّ أَحْكَامَهُ لَا تُنَفَّذُ إِذَا وَلِيَ الْحُكْمَ، وَكَذَلِكَ لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ وَلَا خَبَرُهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَا فُتْيَاهُ إِذَا أَفْتَى، وَلَا يُقَدَّمُ لِلصَّلَاةِ وَإِنْ كَانَ هُوَ بِحَيْثُ لَوِ اقْتُدِيَ بِهِ فَإِنَّهُ لَا تَفْسُدُ صَلَاتُهُ، قَالَ أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيُّ: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَظُنُّ/ أَنَّ مَذْهَبَ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ يَجُوزُ كَوْنُ الْفَاسِقِ إِمَامًا وَخَلِيفَةً، وَلَا يَجُوزُ كَوْنُ الْفَاسِقِ قَاضِيًا، قَالَ: وَهَذَا خَطَأٌ، وَلَمْ يُفَرِّقْ أَبُو حَنِيفَةَ بَيْنَ الْخَلِيفَةِ وَالْحَاكِمِ فِي أَنَّ شَرْطَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْعَدَالَةُ، وَكَيْفَ يَكُونُ خَلِيفَةً وَرِوَايَتُهُ غَيْرُ مَقْبُولَةٍ، وَأَحْكَامُهُ غَيْرُ نَافِذَةٍ، وَكَيْفَ يَجُوزُ أَنْ يَدَّعِيَ ذَلِكَ عَلَى أَبِي حَنِيفَةَ وَقَدْ أَكْرَهَهُ ابْنُ هُبَيْرَةَ فِي أَيَّامِ بَنِي أُمَيَّةَ عَلَى الْقَضَاءِ، وَضَرَبَهُ فَامْتَنَعَ مِنْ ذَلِكَ فَحُبِسَ، فَلَحَّ ابْنُ هُبَيْرَةَ وَجَعَلَ يَضْرِبُهُ كُلَّ يَوْمٍ أَسْوَاطًا، فَلَمَّا خِيفَ عَلَيْهِ، قَالَ لَهُ الْفُقَهَاءُ: تَوَلَّ لَهُ شَيْئًا مِنْ عَمَلِهِ أَيَّ شَيْءٍ كَانَ حَتَّى يَزُولَ عَنْكَ الضَّرْبُ، فَتَوَلَّى لَهُ عَدَّ أَحْمَالِ التِّبْنِ الَّتِي تَدْخُلُ فَخَلَّاهُ، ثُمَّ دَعَاهُ الْمَنْصُورُ إِلَى مِثْلِ ذَلِكَ حَتَّى عَدَّ لَهُ اللَّبِنَ الَّذِي كَانَ يُضْرَبُ لِسُورِ مَدِينَةِ الْمَنْصُورِ إِلَى مِثْلِ ذَلِكَ وَقِصَّتُهُ فِي أَمْرِ زَيْدِ بْنِ عَلِيٍّ مَشْهُورَةٌ، وَفِي حَمْلِهِ الْمَالَ إِلَيْهِ وَفُتْيَاهُ النَّاسَ سِرًّا فِي وُجُوبِ نُصْرَتِهِ وَالْقِتَالِ مَعَهُ، وَكَذَلِكَ أَمْرُهُ مَعَ مُحَمَّدٍ وَإِبْرَاهِيمَ ابْنِي عَبْدِ اللَّهِ بن الحسن، ثم قَالَ: وَإِنَّمَا غَلِطَ مَنْ غَلِطَ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ أَنَّ قَوْلَ أَبِي حَنِيفَةَ: إِنَّ الْقَاضِيَ إِذَا كَانَ عَدْلًا فِي نَفْسِهِ، وَتَوَلَّى الْقَضَاءَ مِنْ إِمَامٍ جَائِرٍ فَإِنَّ أَحْكَامَهُ نَافِذَةٌ، وَالصَّلَاةَ خَلْفَهُ جَائِزَةٌ، لِأَنَّ الْقَاضِيَ إِذَا كَانَ عَدْلًا فِي نَفْسِهِ وَيُمْكِنُهُ تَنْفِيذُ الْأَحْكَامِ كَانَتْ أَحْكَامُهُ نَافِذَةً، فَلَا اعْتِبَارَ فِي ذَلِكَ بِمَنْ وَلَّاهُ، لِأَنَّ الَّذِي وَلَّاهُ بِمَنْزِلَةِ سَائِرِ أَعْوَانِهِ، وَلَيْسَ شرط أعوان القاضي أن يكون عُدُولًا أَلَا تَرَى أَنَّ أَهْلَ بَلَدٍ لَا سُلْطَانَ عَلَيْهِمْ لَوِ اجْتَمَعُوا عَلَى الرِّضَا بِتَوْلِيَةِ رَجُلٍ عَدْلٍ مِنْهُمُ الْقَضَاءَ حَتَّى يَكُونُوا أَعْوَانًا لَهُ عَلَى مَنِ امْتَنَعَ مِنْ قَبُولِ أَحْكَامِهِ لَكَانَ قَضَاؤُهُ نَافِذًا وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وِلَايَةٌ مِنْ جِهَةِ إِمَامٍ وَلَا سُلْطَانٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى عِصْمَةِ الْأَنْبِيَاءِ مِنْ وَجْهَيْنِ. الْأَوَّلُ: أَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ هَذَا الْعَهْدِ:
الْإِمَامَةُ. وَلَا شَكَّ أَنَّ كُلَّ نَبِيٍّ إِمَامٌ، فَإِنَّ الْإِمَامَ هُوَ الَّذِي يُؤْتَمُّ بِهِ، وَالنَّبِيُّ أَوْلَى النَّاسِ، وَإِذَا دَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ الْإِمَامَ لَا يَكُونُ فَاسِقًا، فَبِأَنْ تَدُلَّ عَلَى أَنَّ الرَّسُولَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فَاسِقًا فَاعِلًا لِلذَّنْبِ وَالْمَعْصِيَةِ أَوْلَى. الثَّانِي:
قَالَ: لَا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ فَهَذَا الْعَهْدُ إِنْ كَانَ هُوَ النُّبُوَّةَ وَجَبَ أَنْ تَكُونَ لَا يَنَالُهَا أَحَدٌ مِنَ الظَّالِمِينَ وَإِنْ كَانَ هُوَ الْإِمَامَةَ، فَكَذَلِكَ لِأَنَّ كُلَّ نَبِيٍّ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ إِمَامًا يُؤْتَمُّ بِهِ، وَكُلُّ فَاسِقٍ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ فَوَجَبَ أَنْ لَا تَحْصُلَ النُّبُوَّةُ لِأَحَدٍ مِنَ الْفَاسِقِينَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ: اعْلَمْ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ بَيَّنَ أَنَّ لَهُ مَعَكَ عَهْدًا، وَلَكَ مَعَهُ عَهْدًا، وَبَيَّنَ أَنَّكَ مَتَى تَفِي بِعَهْدِكَ، فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ يَفِي أَيْضًا بِعَهْدِهِ فَقَالَ: وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ [الْبَقَرَةِ: ٤٠] ثُمَّ فِي سَائِرِ الْآيَاتِ فَإِنَّهُ أَفْرَدَ عَهْدَكَ بِالذِّكْرِ، وَأَفْرَدَ عَهْدَ نَفْسِهِ أَيْضًا بِالذِّكْرِ، أَمَّا عَهْدُكَ فَقَالَ فِيهِ: وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذا عاهَدُوا [الْبَقَرَةِ: ١٧٧] وَقَالَ: وَالَّذِينَ هُمْ لِأَماناتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ راعُونَ [الْمُؤْمِنُونَ: ٨] وقال: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ