يُؤْكَلِ اللَّحْمُ وَلَا الْمَرَقُ، قَالَ ابْنُ الْمُبَارَكِ: وَلِمَ ذَاكَ؟ قَالَ: لِأَنَّهُ إِذَا سَقَطَ فِيهَا غَلَيَانِهَا فَمَاتَ فَقَدْ دَاخَلَتِ الْمَيْتَةُ اللَّحْمَ، وَإِذَا وقع فيها في حَالَ سُكُونِهَا فَمَاتَ فَإِنَّمَا رَشَّحَتِ الْمَيْتَةُ اللَّحْمَ، قَالَ ابْنُ الْمُبَارَكِ وَعَقَدَ بِيَدِهِ ثَلَاثِينَ:
هَذَا زرين، بِالْفَارِسِيَّةِ يَعْنِي الْمَذْهَبَ، وَرَوَى ابْنُ الْمُبَارَكِ مِثْلَ هَذَا عَنِ الْحَسَنِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ لَبَنُ الشَّاةِ الْمَيْتَةِ وَأَنْفِحَتُهَا طَاهِرَتَانِ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ وَمَالِكٌ: لَا يَحِلُّ هَذَا اللَّبَنُ وَالْأَنْفِحَةُ، وَقَالَ اللَّيْثُ: لَا تُؤْكَلُ الْبَيْضَةُ الَّتِي تَخْرُجُ مِنْ دَجَاجَةٍ مَيْتَةٍ، وَاعْلَمْ أَنَّ الشَّافِعِيَّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَا يَتَمَسَّكُ فِي هَذِهِ المسألة بظاهر قوله: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ [المائدة: ٣] لِأَنَّ اللَّبَنَ لَا يُوصَفُ بِأَنَّهُ مَيْتَةٌ، فَوَجَبَ الرُّجُوعُ فِيهِ نَفْيًا وَإِثْبَاتًا إِلَى دَلِيلٍ آخَرَ، وَمُعْتَمَدُ الشَّافِعِيِّ أَنَّ اللَّبَنَ لَوْ كَانَ مَجْمُوعًا فِي إِنَاءٍ فَسَقَطَ فِيهِ شَيْءٌ مِنَ الْمَيْتَةِ يَنْجُسُ فَكَذَلِكَ إِذَا مَاتَتْ وَهُوَ فِي ضَرْعِهَا، وَهَكَذَا الْخِلَافُ فِي الْأَنْفِحَةِ، أَمَّا الْبَيْضُ إِذَا أُخْرِجَ مِنْ جَوْفِ الدَّجَاجِ فَهُوَ طَاهِرٌ إِذَا غُسِلَ، وَيَحِلُّ أَكْلُهُ لِأَنَّ الْقِشْرَةَ إِذَا صَلُبَتْ حَجَزَتْ بَيْنَ الْمَأْكُولِ وَبَيْنَ الْمَيْتَةِ فَتَحِلُّ، وَلِذَلِكَ لَوْ كَانَتِ الْبَيْضَةُ غَيْرَ مُنْعَقِدَةٍ لَحَرُمَتْ.
وَلْنَخْتِمْ هَذَا الْفَصْلَ بِمَسَائِلَ مُشْتَرِكَةٍ بَيْنَ الْقِسْمَيْنِ.
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اخْتَلَفَ الْمُتَكَلِّمُونَ فِي أَنَّ الْمَيْتَةَ هَلْ تَكُونُ مَيْتَةً بِمَعْنَى الْمَوْتِ، فَمِنْهُمْ مَنْ أَثْبَتَ الْمَوْتَ بِمَعْنًى مُضَادٍّ لِلْحَيَاةِ، عَلَى مَا قَالَ تَعَالَى: الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَياةَ [الْمُلْكِ: ٢] وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: إِنَّهُ عَدَمُ الْحَيَاةِ عَمَّا مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يَقْبَلَ الْحَيَاةَ وَهَذَا أَقْرَبُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: اخْتَلَفُوا فِي أَنَّ حُرْمَةَ الْمَيْتَةِ هَلْ تَقْتَضِي نَجَاسَتَهَا، وَالْحَقُّ أَنَّ حُرْمَةَ الِانْتِفَاعِ لَا تقتضي النجاسة، لأن لَا يَمْتَنِعُ فِي الْعَقْلِ أَنْ يَحْرُمَ الِانْتِفَاعُ بِهَا، وَيَحِلُّ الِانْتِفَاعُ بِمَا جَاوَرَهَا، إِلَّا أَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ بِالْإِجْمَاعِ أَنَّ الْمَيْتَةَ نَجِسَةٌ.
الْفَصْلُ الثَّانِي فِي تَحْرِيمِ الدَّمِ، وَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حَرَّمَ جَمِيعَ الدِّمَاءِ سَوَاءٌ كَانَ مَسْفُوحًا أَوْ غَيْرَ مَسْفُوحٍ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: دَمُ السَّمَكِ لَيْسَ بِمُحَرَّمٍ، أَمَّا الشَّافِعِيُّ فَإِنَّهُ تَمَسَّكَ بِظَاهِرِ هَذِهِ الْآيَةِ، وَهُوَ قَوْلُهُ: إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَهَذَا دَمٌ فَوَجَبَ أَنْ يَحْرُمَ، وَأَبُو حَنِيفَةَ تَمَسَّكَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً [الْأَنْعَامِ: ١٤٥] فَصَرَّحَ بِأَنَّهُ لَمْ يَجِدْ شَيْئًا مِنَ الْمُحَرَّمَاتِ إِلَّا هَذِهِ الْأُمُورَ، فَالدَّمُ الَّذِي لَا يَكُونُ مَسْفُوحًا وَجَبَ أَنْ لَا يَكُونَ مُحَرَّمًا بِمُقْتَضَى هَذِهِ الْآيَةِ فَإِذَنْ هَذِهِ الْآيَةُ خَاصَّةٌ وَقَوْلُهُ: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ عَامٌّ وَالْخَاصُّ مُقَدَّمٌ عَلَى الْعَامِّ، أَجَابَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِأَنَّ قَوْلَهُ: قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً لَيْسَ فِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى تَحْلِيلِ غَيْرِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ الْمَذْكُورَةِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، بَلْ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى مَا بَيَّنَ لَهُ إِلَّا تَحْرِيمَ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ، وَهَذَا لَا يُنَافِي أَنْ يُبَيِّنَ لَهُ بَعْدَ ذَلِكَ تَحْرِيمَ مَا عَدَاهَا، فَلَعَلَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ نَزَلَتْ بَعْدَ ذَلِكَ، فَكَانَ ذَلِكَ بَيَانًا لِتَحْرِيمِ الدَّمِ سَوَاءٌ كَانَ مَسْفُوحًا أَوْ غَيْرَ مَسْفُوحٍ، إِذَا ثَبَتَ هَذَا وَجَبَ الْحُكْمُ بِحُرْمَةِ جَمِيعِ الدِّمَاءِ وَنَجَاسَتِهَا فَتَجِبُ إِزَالَةُ الدَّمِ عَنِ اللَّحْمِ مَا


الصفحة التالية
Icon