يا ربنا، ﴿مِنْ هَذِهِ﴾ [يونس: ٢٢] الرِّيحِ الْعَاصِفِ، ﴿لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ﴾ [يونس: ٢٢] لَكَ بِالْإِيمَانِ وَالطَّاعَةِ.
[٢٣] ﴿فَلَمَّا أَنْجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ﴾ [يونس: ٢٣] يَظْلِمُونَ وَيَتَجَاوَزُونَ إِلَى غَيْرِ أَمْرِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فِي الْأَرْضِ، ﴿بِغَيْرِ الْحَقِّ﴾ [يونس: ٢٣] أَيْ: بِالْفَسَادِ، ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ﴾ [يونس: ٢٣] ؛ لِأَنَّ وَبَالَهُ رَاجِعٌ عَلَيْهَا، ثُمَّ ابْتَدَأَ فَقَالَ: ﴿مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾ [يونس: ٢٣] أَيْ: هَذَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، خَبَرُ ابْتِدَاءٍ مُضْمَرٍ، كَقَوْلِهِ: ﴿لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ بَلَاغٌ﴾ [الْأَحْقَافِ: ٣٥] أَيْ: هَذَا بَلَاغٌ، وَقِيلَ: هُوَ كَلَامٌ مُتَّصِلٌ، وَالْبَغْيُ ابْتِدَاءٌ وَمَتَاعٌ خَبَرُهُ، وَمَعْنَاهُ: إِنَّمَا بَغْيُكُمْ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لَا يصلح زاد لِمَعَادٍ؛ لِأَنَّكُمْ تَسْتَوْجِبُونَ بِهِ غَضَبَ اللَّهِ، وَقَرَأَ حَفْصٌ (مَتَاعَ) بِالنَّصْبِ، أَيْ تَتَمَتَّعُونَ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، ﴿ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ [يونس: ٢٣]
[٢٤] ﴿إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾ [يونس: ٢٤] فِي فَنَائِهَا وَزَوَالِهَا، ﴿كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ﴾ [يونس: ٢٤] أي: بالمطر، ﴿نَبَاتُ الْأَرْضِ﴾ [يونس: ٢٤] قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: نَبَتَ بِالْمَاءِ مِنْ كُلِّ لَوْنٍ، ﴿مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ﴾ [يونس: ٢٤] من الحبوب والثمار، ﴿وَالْأَنْعَامُ﴾ [يونس: ٢٤] مِنَ الْحَشِيشِ، ﴿حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا﴾ [يونس: ٢٤] حُسْنَهَا وَبَهْجَتَهَا وَظَهَرَ الزَّهْرُ أَخْضَرَ ﴿وَازَّيَّنَتْ﴾ [يونس: ٢٤] أَيْ: تَزَيَّنَتْ، وَكَذَلِكَ هِيَ فِي قِرَاءَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ: تَزَيَّنَتْ. ﴿وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا﴾ [يونس: ٢٤] عَلَى جِذَاذِهَا وَقِطَافِهَا وَحَصَادِهَا، رَدَّ الْكِنَايَةَ إِلَى الْأَرْضِ، وَالْمُرَادُ: النَّبَاتُ إِذْ كَانَ مَفْهُومًا، وَقِيلَ: رَدَّهَا إِلَى الْغَلَّةِ. وَقِيلَ: إِلَى الزِّينَةِ. ﴿أَتَاهَا أَمْرُنَا﴾ [يونس: ٢٤] قَضَاؤُنَا بِإِهْلَاكِهَا، ﴿لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا﴾ [يونس: ٢٤] أَيْ: مَحْصُودَةً مَقْطُوعَةً، ﴿كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ﴾ [يونس: ٢٤] كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بِالْأَمْسِ، وَأَصْلُهُ مِنْ غَنِيَ بِالْمَكَانِ إِذَا أَقَامَ بِهِ، وَقَالَ قَتَادَةُ: مَعْنَاهُ أَنَّ الْمُتَشَبِّثَ بِالدُّنْيَا يَأْتِيهِ أَمْرُ اللَّهِ وَعَذَابُهُ أَغْفَلَ مَا يَكُونُ ﴿كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ﴾ [يونس: ٢٤]
[قَوْلُهُ تَعَالَى وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ وَيَهْدِي مَنْ] يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ.....
[٢٥] قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ﴾ [يونس: ٢٥] قَالَ قَتَادَةُ: السَّلَامُ هُوَ اللَّهُ، وَدَارُهُ الْجَنَّةُ، وَقِيلَ: السَّلَامُ بِمَعْنَى السَّلَامَةِ، سُمِّيَتِ الْجَنَّةُ دَارَ السَّلَامِ؛ لِأَنَّ مَنْ دَخَلَهَا سَلِمَ مِنَ الْآفَاتِ؛ وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالسَّلَامِ التَّحِيَّةُ سُمِّيَتِ الْجَنَّةُ دَارَ السَّلَامِ؛ لِأَنَّ أَهْلَهَا يُحَيِّي بَعْضُهُمْ بَعْضًا بِالسَّلَامِ وَالْمَلَائِكَةُ تُسَلِّمُ عَلَيْهِمْ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ - سَلَامٌ عَلَيْكُمْ﴾ [الرَّعْدِ: ٢٣ - ٢٤] ﴿وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ [يونس: ٢٥] فَالصِّرَاطُ الْمُسْتَقِيمُ هُوَ الْإِسْلَامُ عَمَّ بالدعوة لإظهار الحجة، وخص بالهدية اسْتِغْنَاءً عَنِ الْخَلْقِ.
[٢٦] ﴿لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ﴾ [يونس: ٢٦] أَيْ: لِلَّذِينِ أَحْسَنُوا الْعَمَلَ فِي الدُّنْيَا الْحُسْنَى، وَهِيَ الْجَنَّةُ، وَزِيَادَةٌ وَهِيَ النَّظَرُ إِلَى وَجْهِ اللَّهِ الْكَرِيمِ، هَذَا قَوْلُ جَمَاعَةٍ مِنَ الصحابة منهم، وَأَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ، وَحُذَيْفَةُ وَأَبُو مُوسَى وَعُبَادَةُ بْنُ الصَّامِتِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ وَعِكْرِمَةَ وعطاء ومقاتل والضحاك والسدي، وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ الْحُسْنَى هِيَ: أَنَّ الْحَسَنَةَ بِمِثْلِهَا، وَالزِّيَادَةَ هِيَ التَّضْعِيفُ عَشْرَ أَمْثَالِهَا إِلَى سَبْعِمِائَةِ ضِعْفٍ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ: الْحُسْنَى: حَسَنَةٌ مِثْلُ حَسَنَةٍ، وَالزِّيَادَةُ المغفرة والرضوان، ﴿وَلَا يَرْهَقُ﴾ [يونس: ٢٦] لا يغشى ﴿وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ﴾ [يونس: ٢٦] غُبَارٌ جَمْعُ قَتْرَةٍ، قَالَ ابْنُ عباس وقتادة: سواد الوجه، ﴿وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ﴾ [يونس: ٢٦] هَوَانٌ، قَالَ قَتَادَةُ: كَآبَةٌ، قَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى: هَذَا بُعْدُ نَظَرِهِمْ إِلَى رَبِّهِمْ، ﴿أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾ [يونس: ٢٦]
[٢٧] ﴿وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئَاتِ جَزَاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا﴾ [يونس: ٢٧] أَيْ: لَهُمْ مَثْلُهَا، كَمَا قَالَ: ﴿وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا﴾ [الْأَنْعَامِ: ١٦٠] ﴿وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ مَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ﴾ [يونس: ٢٧] و (من) صلة، أي: ما لهم مِنَ اللَّهِ عَاصِمٌ، ﴿كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ﴾ [يونس: ٢٧] ألبست، ﴿وُجُوهُهُمْ قِطَعًا﴾ [يونس: ٢٧] جَمْعُ قِطْعَةٍ، ﴿مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِمًا﴾ [يونس: ٢٧] نُصِبَتْ عَلَى الْحَالِ دُونَ النَّعْتِ، وَلِذَلِكَ لَمَّ يَقُلْ: مُظْلِمَةٌ، تَقْدِيرُهُ: قِطَعًا مِنَ اللَّيْلِ فِي حَالِ ظُلْمَتِهِ أَوْ قِطْعًا مِنَ اللَّيْلِ الْمُظْلِمِ، وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَالْكِسَائِيُّ وَيَعْقُوبُ: (قِطْعًا) سَاكِنَةَ الطَّاءِ، أَيْ بَعْضًا، كَقَوْلِهِ: ﴿بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ﴾ [هُودٍ: ٨١] ﴿أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾ [يونس: ٢٧]
[٢٨] ﴿وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكَانَكُمْ﴾ [يونس: ٢٨] أَيِ: الْزَمُوا مَكَانَكُمْ، ﴿أَنْتُمْ وَشُرَكَاؤُكُمْ﴾ [يونس: ٢٨] يَعْنِي: الْأَوْثَانَ، مَعْنَاهُ، ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينِ أَشْرَكُوا الْزَمُوا أَنْتُمْ وَشُرَكَاؤُكُمْ مكانكم، ولا تبرحوا، ﴿فَزَيَّلْنَا﴾ [يونس: ٢٨] ميزنا وفرقنا ﴿بَيْنَهُمْ﴾ [يونس: ٢٨] أَيْ: بَيْنَ الْمُشْرِكِينَ وَشُرَكَائِهِمْ وَقَطَعْنَا مَا كَانَ بَيْنَهُمْ مِنَ التَّوَاصُلِ فِي الدُّنْيَا وَذَلِكَ حِينَ يَتَبَرَّأُ كُلُّ مَعْبُودٍ مِنْ دُونِ اللَّهِ ممن عبده، ﴿وَقَالَ شُرَكَاؤُهُمْ﴾ [يونس: ٢٨] يَعْنِي: الْأَصْنَامَ، ﴿مَا كُنْتُمْ إِيَّانَا تَعْبُدُونَ﴾ [يونس: ٢٨] بِطِلْبَتِنَا فَيَقُولُونَ بَلَى كُنَّا نَعْبُدُكُمْ فَتَقُولُ الْأَصْنَامُ:
[٢٩] ﴿فَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ إِنْ كُنَّا عَنْ عِبَادَتِكُمْ لَغَافِلِينَ﴾ [يونس: ٢٩] أَيْ: مَا كُنَّا عَنْ عِبَادَتِكُمْ إِيَّانَا إِلَّا غَافِلِينَ، مَا كُنَّا نَسْمَعُ وَلَا نُبْصِرُ وَلَا نَعْقِلُ.
[٣٠] قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿هُنَالِكَ تَبْلُو﴾ [يونس: ٣٠] أَيْ: تُخْتَبَرُ، وَقِيلَ: مَعْنَاهُ تَعْلَمُ وَتَقِفُ عَلَيْهِ، وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَيَعْقُوبُ: (تَتْلُو) بِتَاءَيْنِ أَيْ تَقْرَأُ، ﴿كُلُّ نَفْسٍ﴾ [يونس: ٣٠] صَحِيفَتَهَا، وَقِيلَ: مَعْنَاهُ تَتْبَعُ كُلُّ نفس، ﴿مَا أَسْلَفَتْ﴾ [يونس: ٣٠] مَا قَدَّمَتْ مِنْ خَيْرٍ أَوْ شَرٍّ، وَقِيلَ: مَعْنَاهُ تُعَايِنُ، ﴿وَرُدُّوا إِلَى اللَّهِ﴾ [يونس: ٣٠] إِلَى حُكْمِهِ فَيَتَفَرَّدُ فِيهِمْ بِالْحُكْمِ، ﴿مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ﴾ [يونس: ٣٠] الذي يتولى ويملك أمرهم: فَإِنْ قِيلَ: أَلَيْسَ قَدْ قَالَ: ﴿وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لَا مَوْلَى لَهُمْ﴾ [محمد: ١١] قيل: المولى هناك هو الناصر، وههنا بمعنى المالك، ﴿وَضَلَّ عَنْهُمْ﴾ [يونس: ٣٠] زال عنهم وبطل، ﴿وَضَلَّ عَنْهُمْ﴾ [يونس: ٣٠] في الدنيا من التكذيب.
[٣١] قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ﴾ [يونس: ٣١]


الصفحة التالية
Icon