المزيةُ بكلا الأمرينِ. والإِشكالُ في هذا الثالثِ، وهو الذي لا تَزالُ تَرى الغلَطَ قد عارضَك فيه، وتَراكَ قَد حِفْتَ فيه على النَّظم١، فتركْتَه وطمحْتَ ببصرِكَ إِلى اللفظِ، وقدَّرْتَ في حُسْنٍ كان به وباللفظِ، أَنه لِلَّفظِ خاصَّة. وهذا هوَ الذي أردتُ حين قلتُ لك: "إنَّ في الاستعارةِ ما لا يُمكنُ بَيانُه إلاَّ مِنْ بَعد العلمِ بالنظْم والوقوفِ على حقيقته".
مثال على ما تقع الشبهة فيه بين اللفظ والنظم:
٩١ - ومن دقيقِ ذلك وخَفِيِّه، أنكَ ترى الناسَ إِذا ذَكَروا قولَه تعالى: ﴿وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا﴾ [مريم: ٤]، لم يَزيدوا فيه على ذِكْرِ الاستعارةِ، ولم ينسبوا الشرف لا إِليها، ولم يَرَوا لِلمزيَّة مُوجِباً سِواها، هكذا ترى الأمر في ظ اهر كلامِهمْ. وليس الأَمرُ على ذلك، ولا هذا الشَّرفُ العظيمُ، ولا هذه المزيةُ الجليلةُ، وهذه الرَّوعةُ التي تدخلُ على النُّفوس عند هذا الكلامِ لمجرَّدِ الاستعارة، ولكن لأنْ سُلِك بالكلام طريقُ ما يسندُ الفعْلُ فيه إِلى الشيءِ٢، وهو لِما هو من سَبَبِهِ، فيُرفعُ به ما يُسند إِليه، ويُؤتى بالذي الفعلُ له في المعنى منصوباً بَعده، مبيناً أنَّ ذلك الإِسنادَ وتلك النسبةَ إِلى ذلك الأولِ، إِنَّما كانا من أجلِ هذا الثاني، ولما بينَه وبينَه منَ الاتَّصالِ والملابسةِ، كقولهم: "طابَ زيدٌ نفساً"، و "قر عمرو عينًا"، و "تصبب عرقًا"، و "كرم أصلًا"، و "حسن وجْهاً" وأشباهِ ذلك مما تَجِد الفعلَ فيه منقولاً عن الشيء إِلى ما ذلك الشيءُ من سببهِ.
وذلك أَنَّا نَعلم أَنَّ "اشتعل" للشيبِ في المعنى، وإنْ كانَ هو للرأسِ في اللفظ، كما أنَّ "طاب" للنفس، و "قر" للعين، و "تصبب" للعرق، وإن

١ "حاف عليه"، جار عليه وظلمه.
٢ في المطبوعة: "لأن يسلك"، وهي لا شيء.


الصفحة التالية
Icon