٩٣ - ونَظيرُ هذا في التَّنزيلِ قولُه عزَّ وجَلَّ: ﴿وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُونًا﴾ [القمر: ١٢]، "التفجيرُ" للعيون في المعنى، وأَوْقَعُ على الأرضِ في اللفظ، كما أُسنِد هناك الاشتعالُ إِلى الرأس، وقد حصَلَ بذلك منْ معنى الشُّمول ههنا، مثْلُ الذي حصلَ هناك. وذلك أَنَّه قد أَفادَ أنَّ الأرضَ قد كانت صارتْ عُيوناً كلُّها، وأنَّ الماءَ قد كان يَفُور مِنْ كلَّ مكانٍ منها. ولو أُجريَ اللفظُ على ظاهرهِ فقيلَ: "وفجَّرْنا عيونَ الأرضِ، أو العيونَ في الأرض"، لم يُفِد ذلك ولم يَدُلَّ عليه، ولَكانَ المفهومُ منه أنَّ الماءَ قد كان فارَ من عيونٍ متفرقةٍ في الأرض، وَتَبجَّس مِن أماكنَ منها.
واعلمْ أَنَّ في الآيةِ الأُولى شيئاً آخرَ من جنْس "النظّم"، وهو تَعريفُ الرأسِ" بالأَلِف واللاَّم، وإفادةُ معنى الإضافةِ من غَيْر إضافةٍ، وهو أَحدُ ما أوجبَ المزيَّةَ. ولو قيل: "واشتعلَ رأسي"، فصُرَّحَ بالإضافة، لذهب بعض الحسن، فاعرفه.
مثال آخر لذلك في الاستعارة:
٩٤ - وأنا أكتبُ لك شيئاً مما سَبيلُ "الاستعارةِ" فِيه هذا السبيلُ، ليَستحْكِمَ هذا البابُ في نفسِك، ولِتأْنَسَ به.
فمِن عجيبِ ذلك قولُ بعض الأعراب:

اللَّيْلُ داجٍ كَنَفا جِلْبابِهِ والبَيْنُ مَحْجورٌ على غُرَابهْ١
ليس كلُّ ما تَرى منَ الملاحَةِ لأنْ جعلَ لِلَّيل جلباباً، وحَجَر على الغرابِ، ولكنْ في أنْ وضعَ الكلامَ الذي تَرى، فَجعلَ "الليلَ" مبتدأ، وجعل "داجٍ" خبراً له وفعلاً لما بعده وهو "الكنفانُ"، وأضافَ "الجلبابَ" إلى
١ في "ج"، "والليل محجور"، كأنه سهور من الناسخ.


الصفحة التالية
Icon