-ب -
الثاني: أني وقفت في كتابه على أقوال كثيرة لم ينسبها بصريح البيان إلى أصحابها، حتى نتبين من يكون هؤلاء؟ وكان من أعظم ما حيرني قولان رددهما في مواضع كثيرة من كتابه؛ بل إن الكتاب كله يدور على رد هذين القولين وإبطال معناها؛ الأول قول القائل: "إنَّ المعاني لا تَتزايد، وإِنما تتزايدُ الألفاظُ"، [دلائل الإعجاز: ٦٣، ٣٩٥] = الثاني، قول القائل: "إنَ الفصاحةَ لا تَظْهرُ في أفرادِ الكلماتِ، ولكن تظهر بالضم على طريقة مخصوصة"، [دلائل الإعجاز: ٣٩٤، ٤٦٦، ٤٦٧].
الثالث: أن عبد القاهر جمع هذين القولين في فصل واحد، [ص: ٣٩٤، ٣٩٥]، وجمع معهما قوله: "ثم إن هذه الشائعات التي تقدَّمَ ذِكْرُها، تَلزَمُ أصحابَ الصَّرْفة"، أيضاً" [ص: ٣٩٠]، والقول بالصرفة من أقوال المعتزلة، فبدا لي يومئذ أن بين هذين القولين وأصحاب "الصرفة" من المعتزلة نسبًا، ولكني لم أقف على ما يرضيني إن ذهبت هذا المذهب.
الرابع: أن عبد القاهر في مواضع متناثرة كثيرة، قد دأب على التعريض بأصحاب "اللفظ"، وبالذين يقولون: "بالضم على طريقة مخصوصة"، وأوهموا أنه "النظم" الذي ذكره الجاحظ في صفة القرآن [دلائل الإعجاز: ٢٥١]، وهو أيضًا "النظم" الذي عليه مدار علم عبد القاهر الذي أسسه، فكان مما شغلني، أطول كلام من تعريضه بهم، وهو ما جاءني في أواخر كتابه "دلائل الإعجاز"، وهو قوله:
"واعلمْ أَن القولَ الفاسِدَ والرأيَ المدخولَ إِذا كان صَدَرَه عن قوم لهم نَباهةٌ وصيتٌ وعلوٌّ منزلةٍ في نوع من أنواع العلوم غير العمل الذي قالوا ذلك القولَ فيه، ثم وقَعَ في الأَلْسُن، فتداولتْه ونَشرَتْه، وفشَا وظَهَر، وكَثُرَ الناقلون له والمشيدون بذكره صار وترك النظر فيه سنة، والتقليد دينا..... ، لربما -بل كلَّما- ظنوا أنه لم يَشِعْ ولم يتسع ولم يروه خلف عن سلف إلا لأنَّ له أصْلاً صحيحاً، وأنه أُخذَ من معْدِن صدقٍ، واشتُقَّ من نَبْعةٍ كريمةٍ، وأَنه لو كان
راجَ عنه القولُ أن يكونَ قد خلَط فيه، ولم يُسدَّدْ في معانيه، ونَستأنفُ الرغبةَ إليهِ عزَّ وجل في الصَّلاة على خَيْر خَلْقه، والمُصطفى مِن بَريَّته، محمّدٍ سيّدِ المُرسلينَ، وعلى أصحابهِ الخُلفاءِ الراشدين، وعلى آلهِ الأخيارِ من بعدهم أجمعين.
بيان فضل العلم:
١ - وبعدُ فإنَّا إذا تصفَّحْنا الفضائلَ لنَعرفَ منازلَها في الشَّرف، ونتبيَّنَ مواقِعَها مِن العِظَم؛ ونَعلم أيٌّ أحقٌّ منها بالتّقَديم، وأسبقُ في استيجابِ التعَّظيم، وجَدْنا العِلمَ أَولاها بذلك، وأوَّلُها هنالك؛ إذ لا شَرفَ إلاَّ وهو السّبيلُ إليه، ولا خيرَ إلاَّ وهو الدَّليلُ عليه، ولا مَنْقَبةَ إلاَّ وهو ذُروتها وسَنامها، ولا مَفْخرةَ إلاَّ وبهِ صحَّتُها وتمَامُها، ولا حسنةَ إلاَّ وهو مِفتاحُها؛ ولا مَحْمَدةَ إلا ومنه يَتَّقدُ مصباحُها، وهو الوفيُّ إذا خانَ كلُّ صاحبٍ، والثقةُ إذا لم يُوثَق بناصحٍ، لولاهُ لَما بانَ الإنسانُ من سائِرِ الحيوانِ إلا بتخطيط صُورتِه، وهيئةِ جسمِهِ وبُنيته، لا، ولا وجَدَ إلى اكتسابِ الفضلِ طريقاً، ولا وجَد بشيءٍ منَ المحاسنِ خليقاً. ذاكَ لأنَّا وإنْ كنَّا لا نصلُ إلى اكتسابِ فضيلةٍ إِلا بالفعلِ، وكانَ لا يكونُ فعْلٌ إلاَّ بالقُدرة، فإنَّا لم نَرَ فعلاً زانَ فاعِلَه وأوجبَ الفضلَ له، حتى يكونَ عنِ العلم صَدَرُهُ، وحتى يتتبين ميسمه عليه وأثره، ولم نر قدرةقط كَسبتْ صاحَبَها مَجْداً وأفادتْه حَمْداً، دونَ أن يكونَ العلمُ رائدَها فيما تَطْلُب، وقائدَها حيث يؤم ويذهب، ويكُونَ المُصرِّفَ لعِنَانها؛ والمقلِّبَ لها في مَيْدانِها. فهي إذاً مفتقِرة في أن تكونَ فضيلةٌ إليه، وعيالٌ في استحقاقِ هذا الاسم عليه، وإذا هيَ خلتْ منَ العِلم أو أبَتْ أن تمتثل أمره؛ وتقتفي أثره ورسمه١،