-جـ -
مَدْخولاً لظَهَر الدَّخَلُ الذي فيه على تَقادُم الزمان وكرورِ الأيام. وكمْ من خَطإٍ ظاهرٍ ورأْيٍ فاسدٍ حظيَ بهذا السبَبِ عندَ الناس... ولَوْلاَ سلطانُ هذا الذي وصفتُ على الناس، وأَنَّ له أُخْذَةً تَمنَعُ القلوبَ عن التدبُّر، وتقطعُ عن دواعيَ التفكُّر لمَا كان لهذا الذي ذَهَب إليه القومُ في أمرِ "اللفظِ" هذا التمكُّنُ وهذه القوة وكيف لا يكونُ في إسارِ الأُخْذَةِ، ومَحُولاً بينهم وبين الفكرة، ومن يُسلِّمُ أنَّ الفصاحةَ لا تَكونُ في أفرادِ الكلمات، وإنما تَكُونُ فيها إذا ضُمَّ بعضُها إلى بعْضٍ، ثم لا يَعْلَم أنَّ ذلك يَقْتضي أنْ تكونَ وصْفاً لها مِن أجْلِ معانيها، لا مِنْ أَجْل أَنفُسِها، ومِنْ حَيثُ هي ألفاظٌ ونطق لسان؟ " [دلائل الإعجاز: ٤٦٤ - ٤٦٧]. وقد اختصرت الكلام هنا، ولكن ينبغي أن تقرأه بطوله في المكان الذي أشرت إليه.
من يكون هؤلاء القوم الذين لهم نباهة صيت وعلو منزلة في نوع من أنواع العلوم، غير علم "الفصاحة" الذي قالوا ذلك القول فيه، وتداولته الألسن ونشرته حتى فشا وظهر، وتمكنت أقوالهم المدخولة هذا التمكن، ورسخت في النفوس هذا الرسوخ، وتشعبت عروقها هذا التشعب، مع ما فيها من التهافت والسقوط وفحش الغلط، والتي إذا نظرت فيها لم تر باطِلاً فيه شَوْبٌ من الحقِّ، وزَيْفاً فيه شيءٌ من الفِضَّة، ولكنْ تَرى الغشَّ بَحْتاً، والغيظ صرفًا؟، كما يقول عبد القاهر [دلائل الإعجاز: ٤٦٥، ٤٦٦] والأمران الثاني والرابع، كان موضع اهتمامي يومئذ، وينبغي أن يكونا موضع اهتمام كل أحد.
وفتشت ونقبت، فلم أظفر بجواب أطمئن إليه، وتناسيت الأمر كله إلا قليلًا، نحوًا من ثلاثين سنة.
حتى كانت سنة ١٣٨١ هـ "١٩٦١ م"، وطبع كتاب "المغني" للقاضي "أبي الحسن عبد الجبار بن أحمد بن عبد الجبار الهمذاني الأسداباذي"،
آلتْ ولا شيءَ أحْشدُ للذَّمِّ على صاحبِها منها١. ولا شَيْنَ أشَيْنُ مِن إعمالِه لها٢.
٢ - فهذا من فضلِ العلم لا تَجد عاقلاً يُخالفك فيه، ولا تَرى أحداً يدَفعُه أو يَنْفيهِ، فأمَّا المفاضلةُ بينَ بعضِه وبعضٍ، وتقديمُ فنٍّ منهُ على فَنّ، فإنَّك تَرى الناسَ فيه على آراءٍ مُختلفة، وأهواءٍ مُتعادية، تَرى كُلاًّ منهم لِحُبِّه نفسَه، وإيثارهِ أن يَدْفعَ النقصَ عنها، يُقدِّم ما يُحْسِن من أنواعِ العلمِ على ما لا يُحْسِن، ويحاولُ الزِّرايةَ على الذي لم يَحْظَ به٣ والطعنَ على أهلهِ والغَضَّ منهم. ثم تتفاوتُ أحوالهُم في ذلك، فمِن مغمورٍ قد استهلكَهُ هَواهُ، وبَعُدَ في الجَوْر مَداه، ومِنْ مُترجِّح فيه بينَ الإِنصافِ والظُّلمْ٤، يجورُ تارة ويَعْدل أخرى في الحُكْم، فأمَّا مَن يَخلُص في هذا المعنى من الحَيْف حتى لا يقضيَ إلاّ بالعدلِ، وحتى يَصْدُر في كلَّ أمرِه عنِ العقلِ، فكالشّيءِ الممتنعِ وجودُه. ولم يكنْ ذلك كذلك، إلاَّ لِشَرفِ العِلم وجليلِ محلِّه، وأنَّ محبَّتَه مركوزةٌ في الطِّباع، ومُرَكَّبة في النُّفوس، وأن الغَيْرة عليه لازمةٌ للجِبِلَّة، وموضوعةٌ في الفِطرة، وأنه لا عيبَ أعيْبُ عندَ الجميعِ مِن عَدَمه، ولا ضَعةَ أوْضعُ من الخلُوِّ عنه، فلم يُعادَ إذن إلا من فَرْط المحبةَّ، ولم يُسمح به إلا لشدة الضن.
علم البيان:
٣ - ثم إنك لا تَرى عِلْماً هو أرسَخُ أصلاً، وأَبْسَق فَرعاً، وأَحلى جَنىً، وأَعذبُ ورْداً، وأكرمُ نِتاجاً، وأنْورُ سراجاً، مِن عِلْم البَيان، الذي لولاه لم تر
٢ في المطبوعة: "ولا شيء أشين"، و "الشين"، العيب.
٣ "زرى عمله عليه يزريه زراية وزريًا"، عابه عليه.
٤ "المترجح"، المتذبذب بميل مرة إلى هنا ثم إلى هنا.