٢٤ - فاعلم أنهم إذا ذكروا في تعلقهم بلتوابع، ومحاولتهم أن يمنعوا من الاستدلال، مع تسليم عجز العرب عن معارضة القرآن من تراخي زمانه عن زمان النبي صلى الله عليه وسلم، كالجاحظ وأشباهه، كانوا في ذلك أجهل، وكان النقض عليهم أسهل. وذلك أن الشرط في نقض العادة أن يعم الأزمان كلها، وأن يظهر على مدعي النبوة ما لم يستطيعه مملوك قط.
وأما تقدم واحد من أهل العصر سائرهم، ففي معنى تقد واحد من أهل مصر من الأمصار غيره ممن يضمه وإياه ذلك المصر، لا فضل في ذلك بين الأمصار والأعصار إذا حققت النظر، إذ ليس بأكثر من أن واحدًا زاد على جماعة معدودين في نوع من الأنواع، فكان أعلمهم أو أكتبهم أو أشعرهم، أو أحذقهم في صنعة، وأبهرهم في عمل من الأعمال. وليس ذلك من الإعجاز في شيء، إنما المعجز ما علم أنه فوق قوى البشر وقدرهم، إن كان من جنس ما يقع التفاضل فيه من جهة القدر، أو فوق علومهم، إن كان من قبيل ما يتفاضل الناس فيه بالعلم والفهم. وإذا كنا نعلم أن استمداد الجاحظ وأشباه الجاحظ من كلام العرب والبلغاء الذين تقدموا في الأزمنة، وانهم فجروا لهم ينابيع القول فاستقوا، ومثلوا لهم مثلًا في البلاغة افحتذروا، إذن لم يبلغ شأو ما بلغ١، ولم يدر لهم من ضروع القول ما ذر، لو أن طباعًا لم تشرب من مائهم٢، ولم تعذ بجناهم، ولم يكن حالهم في الاكتساب منهم، والاستمداد من ثمار قرائحهم، وتشمم الذي قاح من روائحهم٣، حال النحل التي تغتذى بأريح الأنوار وطيب الأزهار، وتملأ
٢ في المخطوطة والمطبوعة: "ولو أن طباعًا"، الواو مفسدة للكلام.
٣ السياق: "ولم يكن حالهم حال النحل".