وإنْ تعَسَّفَ متعسفٌ في تلاؤُمِ الحروفِ، فبَلغَ به أن يكون الأصلَ في الإِعجازِ، وأَخرجَ سائرَ مَا ذكروه في أقسامِ البلاغة من أن يكونَ له مَدْخلٌ أو تأثيرٌ فيما له كان القرآنُ معجزاً، كان الوجهُ أن يُقالَ له: إنَّه يَلزمُكَ، على قياسِ قولِكَ، أن تجوز أن يكون ههنا نظمٌ للألفاظِ وترتيبٌ، لا على نَسَقِ المعاني، ولا على وجْهٍ يُقْصَد به الفائدةُ، ثم يكونَ مع ذلك مُعْجزاً، وكَفى به فساداً.
٥١ - فإنْ قالَ قائلٌ: إني لا أجعلُ تلاؤمَ الحروفِ مُعْجزاً حتى يكونَ اللفظُ مع ذلك دالا، وذاك أنه إنَّما تصعبُ مراعاةُ التعادلِ بينَ الحروفِ، إذا احتيجَ مع ذلك إلى مراعاةِ المعاني، كما أنه إنَّما تصْعبُ مراعاةُ السجعِ والوزنِ، ويصعبُ كذلك التجنيسُ والترصيعُ، إذا رُوعي معه المَعْنى.
قيلَ له: فأنتَ الآنَ، إنْ عقَلْتَ ما تَقولُ، قد خرجْتَ من مسئلتك، وتركْتَ أن يَسْتحِقَّ اللفظُ المزيةَ من حيثُ هو لفظ١، وجئت به تَطْلبُ لِصعوبةِ النظْمِ فيما بينَ المعاني طريقاً، وتَضَعُ له علَّةً غيرَ ما يعرفُه الناسُ، وتدَّعي أنَّ ترتَيبَ المعاني سهْل، وأنَّ تفاضُلَ النَّاس في ذَلك إلى حَدِّ، وأَنَّ الفضيلةَ تَزْداد وتَقْوى إذا تُوَخِّي في حُروفِ الألفاظِ التعادلُ والتلاؤمُ. وهذا مِنك وَهُمٌ.
وذلكَ أنَّا لا نَعلمُ لِتَعادُلِ الحروفِ معنًى سِوى أنْ تَسْلَم من نَحْوِ ما تَجدُهُ في بيتِ أبي تمامٍ:
كريمٌ متى أمدحْه أمْدَحْهُ والوَرى

١ في "ج" كتب: "من حيث وجئت تطلب"، أفسد الكلام، وفي "س": "من حيث هو لفظ، وحيث تطلب"، أفسده أيضًا.


الصفحة التالية
Icon