وَلِبَاسُ الصَّالِحِينَ، وَشَارَةُ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ، وَاخْتِيَارُ الزُّهَّادِ وَالْعَارِفِينَ، وَهُوَ يُلْبَسُ لِينًا وَخَشِنًا، وَجَيِّدًا وَمُقَارِبًا وَرَدِيئًا، وَإِلَيْهِ نَسَبَ جَمَاعَةٌ مِنْ النَّاسِ الصُّوفِيَّ؛ لِأَنَّهُ لِبَاسُهُمْ فِي الْغَالِبِ، فَالْيَاءُ لِلنَّسَبِ وَالْهَاءُ لِلتَّأْنِيثِ، وَقَدْ أَنْشَدَنِي بَعْضُ أَشْيَاخِهِمْ بِالْبَيْتِ الْمُقَدَّسِ:

تَشَاجَرَ النَّاسُ فِي الصُّوفِيِّ وَاخْتَلَفُوا فِيهِ وَظَنُّوهُ مُشْتَقًّا مِنْ الصُّوفِ
وَلَسْت أَنْحَلُ هَذَا الِاسْمَ غَيْرَ فَتًى صَافَى فَصُوفِيَ حَتَّى سُمِّيَ الصُّوفِيّ
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: قَوْلُهُ: ﴿وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ﴾ [النحل: ٥]: فَأَبَاحَ لَنَا أَكْلَهَا كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ بِشُرُوطِهِ وَأَوْصَافِهِ، وَكَانَ وَجْهُ الِامْتِنَانِ بِهَا أُنْسُهَا، كَمَا امْتَنَّ بِالْوَحْشِيَّةِ عَلَى وَجْهِ الِاصْطِيَادِ، فَالْأَوَّلُ نِعْمَةٌ هَنِيَّةٌ، وَالصَّيْدُ مُتْعَةٌ شَهِيَّةٌ، وَنَصْبَةٌ نَصِيَّةٌ، وَهُوَ الْأَغْلَبُ فِيهَا.
[الْآيَة الثَّانِيَة قَوْله تَعَالَى وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ]
َ} [النحل: ٦].
فِيهَا مَسْأَلَتَانِ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَوْلُهُ: ﴿وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ﴾ [النحل: ٦]: كَمَا قَالَ فِي الْآيَةِ بَعْدَهَا: ﴿لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً﴾ [النحل: ٨] وَالْجَمَالُ قَدْ بَيَّنَّاهُ فِي كُتُبِ الْأُصُولِ وَشَرْحِ الْحَدِيثِ، وَأَوْضَحْنَا أَنَّهُ يَكُونُ فِي الصُّورَةِ وَتَرْكِيبِ الْخِلْقَةِ، وَيَكُونُ فِي الْأَخْلَاقِ الْبَاطِنَةِ، وَيَكُونُ فِي الْأَفْعَالِ.
فَأَمَّا جَمَالُ الْخِلْقَةِ فَهُوَ أَمْرٌ يُدْرِكُهُ الْبَصَرُ، فَيُلْقِيهِ إلَى الْقَلْبِ مُتَلَائِمًا، فَتَتَعَلَّقُ بِهِ النَّفْسُ مِنْ غَيْرِ مَعْرِفَةٍ بِوَجْهِ ذَلِكَ وَلَا بِسَبَبِهِ لِأَحَدٍ مِنْ الْبَشَرِ.
وَأَمَّا جَمَالُ الْأَخْلَاقِ فَبِكَوْنِهَا عَلَى الصِّفَاتِ الْمَحْمُودَةِ مِنْ الْعِلْمِ وَالْحِكْمَةِ، وَالْعَدْلِ وَالْعِفَّةِ، وَكَظْمِ الْغَيْظِ، وَإِرَادَةِ الْخَيْرِ لِكُلِّ وَاحِدٍ.
وَأَمَّا جَمَالُ الْأَفْعَالِ فَهُوَ وُجُودُهَا مُلَائِمَةً لِصَالِحِ الْخَلْقِ، وَقَاضِيَةً بِجَلْبِ الْمَنَافِعِ إلَيْهِمْ، وَصَرْفِ الشَّرِّ عَنْهُمْ.


الصفحة التالية
Icon