٩ سورة براءة الآية (٢) البراءةِ من جهته تعالى ووصولِها إليهم فإن حق الصفاتِ قبل علم المخاطَب بثبوتها لموصوفاتها أن تكون أخيارا وحقُّ الأخبار بعد العلمِ بثبوتها لما هيَ له أن تكون صفاتٍ كما حُقّق في موضعه وقرئ منِ الله بكسر النون على أن الأصلُ في تحريك الساكنِ الكسرُ ولكن الوجهَ هو الفتحُ في لام التعريفِ خاصةً لكثرة الوقوع والعهدُ العقدُ الموثقُ باليمين والخطابُ في عاهدتم للمسلمين وقد كانوا عاهدوا مشركي العربِ من أهل مكةَ وغيرِهم بإذن الله تعالى واتفاقِ الرسولِ ﷺ فنكَثوا إلا بني ضَمْرَةَ وبني كِنانةَ فأُمر المسلمون بنبذ العهدِ إلى الناكثين وأُمهلوا أربعةَ أشهر ليسيروا أين شاءوا وإنما نُسبت البراءةُ إلى الله ورسوله مع شمولها للمسلمين واشتراكِهم في حكمها ووجوبِ العملِ بموجبها وعُلّقت المعاهدةُ بالمسلمين خاصةً مع كونها بإذن الله تعالى واتفاق الرسول ﷺ للإنباء عن تنجُّزها وتحتُّمها من غير توقفٍ على رأي المخاطبين لأنها عبارةٌ عن إنهاء حكمِ الأمانِ ورفع الخطر المترتبِ على العهد السابقِ عن التعرض للكفرة وذلك مَنوطٌ بجناب الله عزَّ وجلَّ لأنَّه أمرٌ كسائر الأوامرِ الجاريةِ على حسب حكمةٍ تقتضيها وداعيةٍ تستدعيها تترتب عليها آثارُها من غير توقفٍ على شيء أصلاً واشتراكُ المسلمين في حكمها ووجوبِ العمل بموجبها إنما هو على طريقةُ الامتثالِ بالأمر لا على أنْ يكونَ لهم مدخلٌ في إتمامها أو في ترتب أحكامِها عليها وأما المعاهدةُ فحيث كانت عقداً كسائر العقود الشرعيةِ لا تتحصّل في نفسها ولا تترتب عليها أحكامُها إلا بمباشرة المتعاقدين على وجوه مخصوصةٍ اعتبرها الشرعُ لم يُتصوَّرْ صدورُها عنه سبحانه وإنما الصادرُ عنه في شأنها هو الإذنُ فيها وإنما الذي يباشرُها ويتولى أمرَها المسلمون ولا يخفى أن البراءةَ إنما تتعلق بالعهد لا بالإذن فيه فنُسبت كلُّ واحدة منهما إلى من هو أصلٌ فيها على أن في ذلك تفخيماً لشأن البراءةِ وتهويلاً لأمرها وتسجيلاً على الكفرة بغاية الذلِّ والهوانِ ونهايةِ الخِزْيِ والخِذلان وتنزيهاً لساحة السبحان والكبرياءِ عما يوهم شائبةَ النقصِ والنداء تعالى عن ذلكَ عُلواً كبيراً وإدراجه ﷺ في النسبة الأولى وإخراجُه عن الثانية لتنويه شأن الرفيعِ وإجلالِ قدرِه المنيع في كلا المقامين ﷺ وإيثارُ الجملة الاسميةِ على الفعلية كأن يقال قد برئ الله ورسولُه من الذين أو نحوُ ذلك للدلالة على دوامها واستمرارِها وللتوسل إلى تهويلها بالتنوين التفخيميِّ كما أشير إليه
﴿فَسِيحُواْ﴾ السياحةُ والسَّيْحُ الذهابُ في الأرض والسيرُ فيها بسهولة على مقتضى المشيئةِ كسيح الماءِ على موجب الطبيعة ففيه من الدِلالة عَلى كمالِ التوسعة والترفيه ما ليس في سيروا ونظائره وزيادة قوله عز وجل
﴿فِى الارض﴾ لقصد التعميمِ لأقطارها من دار الإسلامِ وغيرِها والمرادُ إباحةُ ذلك لهم وتخليتُهم وشأنَهم من الاستعداد للحرب أو تحصينِ الأهل والمال وتحصيل المهاب أو غيرِ ذلك لا تكليفُهم بالسياحة فيها وتلوينُ الخطاب بصرفه عن المسلمين وتوجيهِه إليهم مع حصول المقصودِ بصيغة أمرِ الغائبِ أيضاً للمبالغة في الإعلام بالإمهال حسماً لمادة تعلّلِهم بالغفلة وقطعاً لشأفة اعتذارِهم بعدم الاستعداد وإيثارُ صيغةِ الأمرِ مع تسنّي إفادةِ ذلك المعنى بطريق الإخبارِ أيضاً كأن يقالَ مثلاً فلكم أن تسيحوا أو نحوُ ذلك لإظهار كمالِ القوةِ والغلبةِ وعدمِ الاكتراث


الصفحة التالية
Icon