مريم ٣ ٤ أي فيما يتلى عليك ذكرها وقرئ ذكَّر رحمةَ ربك على صيغة الماضي من التذكير أي هذا المتلوُّ ذكّرها وقرئ ذكر على صيغة الأمر والتعرضُ لوصفِ الربوبيةِ المنبئةِ عن التبليغِ إلى الكمالِ مع الإضافة إلى ضميره ﷺ للإيذان بأن تنزيلَ السورة عليه ﷺ تكميل له ﷺ وقوله تعالى (عَبْدِهِ) مفعولٌ لرحمة ربك على أنها مفعولٌ لما أضيف إليها وقيل للذكر على أنه مصدرٌ أضيف إلى فاعله على الاتساع ومعنى ذكرِ الرحمةِ بلوغُها وإصابتُها كما يقال ذكرني معروفُ فلان أي بلغني وقوله عز وعلا (زَكَرِيَّا) بدلٌ منه أو عطفُ بيان له
(إِذْ نادى رَبَّهُ نِدَاء خَفِيّاً) ظرفٌ لرحمة ربك وقيل لذِكرُ على أنه مضافٌ إلى فاعله اتساعاً لا على الوجه الأولِ لفساد المعنى وقيل هو بدلُ اشتمالٍ من زكريا كما في قوله واذكر فِى الكتاب مَرْيَمَ إِذِ انتبذت ولقد راعى عليه الصلاة والسلام حسنَ الأدب في إخفاء دعائِه فإنه مع كونه بالنسبة إليه عز وجل كالجهر أدخلُ في الإخلاص وأبعدُ من الرياء وأقربُ إلى الخلاص عن لائمة الناس على طلب الولدِ لتوقفه على مباد لا يليق به تعاطيها في أوان الكِبَر والشيخوخة وعن غائلة مواليه الذين كان يخافهم وقيل كان ذلك منه عليه السلام لضَعف الهرم قالوا كان سنُّه حينئذ ستين وقيل خمساً وستين وقيل سبعين وقيل خمساً وسبعين وقيل ثمانين وقيل أكثرَ منها كما مر في تفسير سورة آل عِمرانَ
(قَالَ) جملةٌ مفسِّرةٌ لنادى لا محلَّ لها من الإعراب (رَبّ إِنّى وَهَنَ العظم مِنّى) إسنادُ الوهن إلى العظم لِما أنه عمادُ البدن ودِعامُ الجسد فإذا أصابه الضَّعفُ والرخاوة أصاب كلَّه أو لأنه أشدُّ أجزائه صلابةً وقِواماً وأقلُّها تأثراً من العلل فإذا وهَن كان ما وراءه أوهنَ وإفرادُه للقصد إلى الجنس المنبئ عن شمول الوهْنِ لكُلِّ فردٍ منْ أفرادِهِ ومنّي متعلق بمحذوف هو حال من العظم وقرئ وهِن بكسر الهاء وبضمها أيضاً وتأكيدُ الجملة لإبرازِ كمالِ الاعتناءِ بتحقيقِ مضمونها (واشتغل الرأس شيبا) شبه عليه الصلاة والسلام الشيبَ في البياض والإنارة بشُواظ النار وانتشارَه في الشعر وفُشوَّه فيه وأخذَه منه كلَّ مأخذ باشتعالها ثم أخرجه مُخرجَ الاستعارةِ ثم أَسند الاشتعالَ إلى محل الشعرِ ومنبِتِه وأخرجه مُخرج التمييز وأطلق الرأسَ اكتفاءً بما قيّد به العظمَ وفيه من فنون البلاغة وكمال الجزالة مالا يخفى حيث كان الأصلُ اشتعل شيبُ رأسي فأسند الاشتعالَ إلى الرأس كما ذُكر لإفادة شمولِه لكلها فإن وِزانَه بالنسبة إلى الأصل وزانُ اشتعل بيتُه ناراً بالنسبة إلى اشتعل النارُ في بيته ولزيادة تقريرِه بالإجمال أولاً والتفصيلِ ثانياً ولمزيد تفخيمِه بالتنكير وقرئ بإدغام السينِ في الشين (وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبّ شَقِيّاً) أي ولم أكن بدعائي إياك خائباً في وقت من أوقات هذا العمُر الطويلِ بل كلما دعوتُك استجبتَ لي والجملةُ معطوفةٌ على ما قبلها أو حالٌ من ضميرِ المتكلم إذِ المعنى واشتعل رأسي شيباً وهذا توسلٌ منه عليهِ الصَّلاة والسَّلام بما سلف منه من الاستجابة عند كلِّ دعوة إثرَ تمهيدِ ما يستدعي الرحمةَ ويستجلب الرأفةَ من كِبَر السّنِّ وضَعفِ الحال فإنه تعالى بعد ما عوّد عبدَه بالإجابة دهراً طويلاً لا يكاد


الصفحة التالية
Icon