الروم ٩ ١٠ وانه لابد لها من انتهاءٍ إلى وقتٍ يُجازيها فيه الحكيم الذي دبَّر أمرَها على الإحسانِ إحساناً وعلى الإساءةِ مثلَها حتَّى يعلموا عند ذلك أنَّ سائرَ الخلائقِ كذلك أمرُها جارٍ على الحكمةِ والتَّدبيرِ وأنَّه لا بدَّ لها من الانتهاءِ إلى ذلك الوقتِ وأنتَ خبيرٌ بأنَّ أمرَ معادِ الإنسانِ ومُجازاتِه بما عملَ من الإساءةِ والإحسانِ هو المقصودُ بالذَّاتِ والمحتاجُ إلى الإثباتِ فجعلُه ذريعةً إلى إثباتِ معادِ ما عَداهُ مع كونِه بمعزلٍ من الجزاء تعكيس للامر فتدبر قوله تعالى ﴿وَإِنَّ كَثِيراً مّنَ النَّاسِ بِلِقَاء رَبّهِمْ لكافرون﴾ تذييلٌ مقررٌ لمَا قبلَهُ ببيانِ أن أكثرَهم غيرُ مقتصرين على ما ذُكر من الغفلةِ عن أحوالِ الآخرةِ والإعراضِ عن التَّفكُّرِ فيما يُرشدهم إلى معرفتِها من خلقِ السمواتِ والأرضِ وما بينهما من المصنُوعاتِ بل هم مُنكرون جاحدون بلقاءِ حسابِه تعالى وجزائِه بالبعثِ
﴿أَوَ لَمْ يَسِيرُواْ﴾ توبيخٌ لهم بعدم اتِّعاظِهم بمشاهدةِ أحوالِ أمثالِهم الدالة على عاقبتهم ومآ لهم والهمزةُ لتقريرِ المنفيِّ والواوُ للعطفِ على مقدرٍ يقتضيه المقامُ أي أقعدُوا في أماكنِهم ولم يسيرُوا ﴿فِى الارض﴾ وقولُه تعالى ﴿فَيَنظُرُواْ﴾ عطفٌ على يسيروا داخلٌ في حكمِ التَّقريرِ والتَّوبيخِ والمعنى أنَّهم قد سارُوا في أقطارِ الأرضِ وشاهدُوا ﴿كَيْفَ كَانَ عاقبة الذين مِن قَبْلِهِم﴾ من الأممِ المهلكةِ كعادٍ وثمودَ وقوله تعالى ﴿كَانُواْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً﴾ الخ بيانُ لمبدأِ احوالهم ومآ لها يعني انهم كانُوا أقدرَ منهم على التَّمتع بالحياةِ الدُّنيا حيثُ كانوا أشد منهم قوة ﴿وَأَثَارُواْ الارض﴾ أي قلبُوها للزراعةِ والحرثِ وقيل لاستنباطِ المياه واستخراجِ المعادنِ وغيرِ ذلك ﴿وَعَمَرُوهَا﴾ أي عمَّرَها أولئك بفنونِ العماراتِ من الزِّراعةِ والغرسِ والبناءِ وغيرها ممَّا يُعدُّ عمارةً لها ﴿أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا﴾ أي عمارةً أكثرَ كمَّا وكيفاً وزماناً من عمارةِ هؤلاءِ إيَّاها كيف لا وهُم أهلُ وادٍ غيرِ ذي زرع لاتبسط لهم في غيرهِ وفيه تهكُّم بهم حيثُ كانوا مغترِّين بالدُّنيا مفتخرينَ بمتاعِها مع ضعفِ حالِهم وضيقِ عطنِهم إذْ مدارُ أمرِها على التبسطِ في البلادِ والتسلطِ على العبادِ والتقلبِ في أكنافِ الأرضِ بأصنافِ التصرفات وهم ضعفة ملجئون إلى وادٍ لا نفعَ فيه يخافُون أنْ يتخطَّفَهم النَّاسُ ﴿وَجَاءتْهُمْ رُسُلُهُم بالبينات﴾ بالمعجزات أو الآياتِ الواضحاتِ ﴿فَمَا كَانَ الله لِيَظْلِمَهُمْ﴾ أي فكذَّبوهم فأهلَكهم فما كانَ الله ليهلَكهم من غير جُرمٍ يستدعيِه من قِبلهم والتعبيرُ عن ذلك بالظَّلمِ مع أنَّ إهلاكَه تعالى إيَّاهم بلا جُرمٍ ليس من الظالم في شيء على ما تقرر من قاعدةِ أهلِ السنةِ لإظهارِ كمالِ نزاهتِه تعالَى عنْ ذلك بإبرازهِ في معرضِ ما يستحيل صدروه عنه تعالى وقد مرَّ في سورةِ الأنفالِ وسورةِ آلِ عمرانَ ﴿ولكن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ﴾ بأن اجترءوا على اقترافِ ما يُوجبه من المعاصِي العظيمةِ
﴿ثُمَّ كَانَ عاقبة الذين أساؤوا﴾ أي عملوا السيئات