السجدة ١٤ ١٦ اختيارِهم فيما سيأتي إلى الغيِّ وإيثارِهم له على الهدى فلو أُريدت هي من تلك الحيثيةِ لاستدرك بعدمِها ونيطَ ذلك بما ذُكر من المناطِ على منهاجِ قولِه تعالى وَلَوْ عَلِمَ الله فِيهِمْ خَيْرًا لاسْمَعَهُمْ فمن توهَّم أنَّ المَعنى ولو شئنا لأعطينا كلَّ نفسٍ ما عندنا من اللُّطفِ الذي لو كان منهم اختيارُه لاهتدَوا ولكن لم نُعطهم لمّا علمنا منهم اختيارَ الكفر وإيثارَه فقد اشتبه عليه الشئون والفاء في قوله تعالى
﴿فذوقوا﴾ لترتيب الأمر بالذوق على ما يُعرب عنهُ ما قبلَهُ من نفيِ الرَّجعِ إلى الدُّنيا أو على الوعيدِ المحكيِّ والباء في قوله تعالى ﴿بِمَا نَسِيتُمْ لِقَاء يَوْمِكُمْ هذا﴾ للإيذانِ بأنَّ تعذيبَهم ليس لمجردِ سبقِ الوعيدِ به فقط بل هو وسبقُ الوعيدِ أيضاً بسببٍ موجبٍ له من قِبَلهم كأنَّه قيل لا رجعَ لكم الى الدنيا أو حتى وعيدي فذوقُوا بسببِ نسيانِكم لقاءَ هذا اليومِ الهائلِ وتركِكم التفكُّرَ فيهِ والاستعدادَ له بالكُلِّيةِ ﴿إِنَّا نسيناكم﴾ أي تركناكُم في العذابِ تركَ المنسيِّ بالمرَّةِ وقولُه تعالى ﴿وَذُوقُواْ عَذَابَ الخلد بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ تكريرٌ للتَّأكيدِ والتَّشديدِ وتعيينُ المفعولِ المطويِّ للذوقِ والإشعارِ بأنَّ سببَه ليس مجرَّد ما ذُكر من النِّسيانِ بل له أسبابٌ أخرُ من فنونِ الكفرِ والمَعاصي التي كانُوا مستمرِّين عليها في الدُّنيا وعدمُ نظمَ الكلِّ في سلكٍ واحدٍ للتنبيهِ على استقلالِ كلَ منها في استيجابِ العذابِ وفي إبهامِ المذوقِ أولاً وبيانِه ثانياً بتكريرِ الأمرِ وتوسيطِ الاستئناف المنبئ عن كمالِ السُّخطِ بينهما من الدلالة على غاية التَّشديدِ في الانتقامِ منهم ما لا يخفى وقوله تعالى
﴿إنما يؤمن بآياتنا﴾ استئنافٌ مسوقٌ لتقريرِ عدمِ استحقاقِهم لإيتاءِ الهُدى والإشعارِ بعدمِ إيمانِهم لو أُوتوه بتعيينِ مَن يستحقُّه بطريقِ القصرِ كأنَّه قيل إنَّكم لا تُؤمنون بآياتِنا ولا تعملون بموجبِها عملاً صالحاً ولو رَجَعناكم إلى الدُّنيا كما تدَّعون حسبما ينطِق به قولُه تعالى وَلَوْ رُدُّواْ لعادوا لِمَا نُهُواْ عَنْهُ وإنَّما يُؤمن بها ﴿الذين إِذَا ذُكّرُواْ بِهَا﴾ أي وُعِظوا ﴿خَرُّواْ سُجَّداً﴾ آثِرَ ذي أثيرٍ من غيرِ تردُّدٍ ولا تلعثمٍ فضلاً عن التَّسويفِ إلى معاينةِ ما نطقتْ به من الوعدِ والوعيدِ أي سقطُوا على وجوهِهم ﴿وَسَبَّحُواْ بِحَمْدِ رَبّهِمْ﴾ أي ونزَّهُوه عند ذلك عن كلِّ ما لا يليقُ به من الأمور التي من جُملتها العجزُ عن البعثِ ملتبسين بحمدِه تعالى على نعمائِه التي أجلُّها الهدايةُ بإيتاءِ الآياتِ والتَّوفيقِ للاهتداءِ بها والتعرُّضُ لعُنوانِ الرُّبوبيةِ بطريقِ الالتفاتِ مع الإضافةِ إلى ضميرِهم للإشعارِ بعلَّةِ التَّسبيحِ والتَّحميدِ وبأنَّهم يفعلونهما بملاحظةِ ربوبيتِه تعالى لهم ﴿وَهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ﴾ أي والحالُ أنَّهم خاضعون له تعالى لا يستكبرون عمَّا فعلُوا من الخُرور والتَّسبيحِ والتَّحميدِ
﴿تتجافى جُنُوبُهُمْ﴾ أي تنبُو وتتنحى ﴿عَنِ المضاجع﴾ أي الفُرشِ ومواضعِ المنامِ والجملةُ مستأنفةٌ لبيانِ بقيةِ محاسنِهم وهم المُتهجِّدونَ بالليلِ قال أنسٌ رضي الله عنه نزلتْ فينا معاشرَ الأنصارِ كنَّا نصلِّي المغربَ فلا نرجعُ إلى رحالِنا حتى نصلي