في زمرة من ذكر وإن جالت من المعترض الظنون، وإنما مقصوده ما أشار إليه أوّلا أن القدر الزائد على التفسير من استخراج محاسن (١) النكت والفقر ولطائف المعاني التي يستعمل فيها الفكر، وكشف الأستار عن غوامض الأسرار، وبيان ما في القرآن من الأساليب، وما تضمنه من وجوه البلاغة في التراكيب = لا يتهيأ له إلاّ من برع في هذين العلمين، وتبحر في هذين الفنين، وصار مجتهدا في علوم البلاغة، ذا تصرّف في أفانين البراعة، خبيرا بأساليب الكلام، بصيرا بمسالك النظام؛ لأن لكل نوع (٢) أصولا وقواعد، هي للوصول إلى حقيقته مصاعد، ولا يُدرك فنّ بقواعد فنّ آخر وإن شرف ذلك الفنّ، وفضل على الأوّل لما فاخر (٤).
والفقيه والمتكلّم بمعزل عن أسرار البلاغة، واللغوي والنحوي إنما يدركان من مدلول اللفظ وإعرابه بلاغة، والقاص والأخباري أقلّ من أن يُتَوَهّمَ فيهما الصلاحية للتكلّم في القرآن، وأذلّ من أن يجوز لهما الخوض في أسرار الفرقان.
ومراده بحافظ الأخبار الحافظ لأيام الناس والمؤرخ الذي اقتصر على ما ليس له في بنيان العلم (٥) أساس، ولهذا ضرب له المثل بابن القرِّيِّة، لأنه كان بهذه الصفة، ولم يكن له بالأخبار النبوية حفظ ولا معرفة.
ولو أراد به حافظ الأحاديث لضرب المثل بمالك وسفيان (٦)، أو بأحمد والبخاري، ونحوهما (٧) من الأعيان، فعرف أن للزمخشري مقصدا غير ما فهمه المعترض، ومنحى لا ينخدش بما ذكره المتعقب ولا ينتقض.
وقد كان الصحابة يعرفون هذا المعنى بالسليقة، وبه قامت عندهم المعجزة على الحقيقة، فاهتدوا بسببه إلى أقوم طريقة.
ألم يثبت عن جبير بن مطعم أنه قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلّم في

(١) في ظ: من
(٢) في د: فن.
(٣) في د: حقائقه.
(٤) في د: وفاخر.
(٥) في ح: العلوم.
(٦) في هو سفيان بن عيينة بن أبي عمران: ميمون، شيخ الإسلام أبو محمد الهلالي الكوفي ثم المكي، قال الشافعي: لولا مالك وسفيان بن عيينة لذهب علم الحجاز، توفي سنة ثمان وتسعين ومائة. سير أعلام النبلاء ٨/ ٤٠٠ والعقد الثمين في تاريخ البلد الأمين ٤/ ٥٩١.
(٧) في د: ونحوه.


الصفحة التالية
Icon