وأَن لا يكون أمامَ الآخَرين، وأَنْ لا يَقترنَ بالسَّبِّ والشتْمِ والذَّمِّ والتقبيح، وأَنْ لا يَكونَ دائماً مُتَواصِلاً، وإِنما في حالات استثنائيةٍ نادرة!.
وقالَ الفادي في اعتراضِه على حديثِ القرآنِ في شهادةِ المرأة: " وجاءَ
في سورةِ البقرة: (وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى).
فلماذا تكونُ شهادةُ امرأَتَيْن بشهادةِ رجلِ واحد، مع أَنها في أَحيانٍ كثيرةٍ
قد تَفوقُ رَجُلَها في العقلِ والثقافةِ والشخصيةِ " (١).
ليست الشهادةُ في الآيةِ مُطْلَقَة، وِإنما هي شهادَةٌ مُقَيَّدَة، متعلقة بموضوع
الآيَة، وهو الكلامُ على " الدَّيْنِ " وكيفيةِ كتابتِه وإِقرارِه والشهادةِ عليه.
وَوَجَّهَ القرآنُ المسلمينَ إِلى الإِشهادِ على الدَّيْنِ بشاهدَيْن رجلَيْن، فإِنْ لم يَجِدوا رجلَيْن، فيمكنُ أَنْ يستشهدوا برجُلٍ وامرأَتَيْن.
- لماذا شهادةُ امرأتَيْن مقابلَ الرجل؟
الجوابُ في الآية: (أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى).
أَيْ أَنَّ المرأتَيْن تَتَعاونانِ وتَتَكاملانِ في الشهادة، فإِنْ ضلَّتْ إحْدى المرأتَيْن تَفاصيلَ القضيةِ الماليةِ المرفوعة، ذَكَّرَتْها صاحبتُها بتلك التفاصيل، وكُلّ واحدةٍ معرضة للضَّلالِ والنسيان، فتُذَكِّرُها الأُخرى بما نسيَتْه!.
ولا يَعني شهادةُ المرأتَيْن بشهادةِ رجلٍ اتّهامَ المرأةِ في عَقْلِها وشخصيتِها، كما فهمَ الفادي خطأً، فللمرأةِ عَقْلُها وتفكيرُها وحفْظُها، وقد
تفوقُ الرجلَ في ذلك!.
إِنَّ المسألةَ مالية، تتعلَّقُ بتفاصيلِ الدَّيْنِ وملابساتِه وكتابتِه وإِجراءاتِه،
وهذه أُمورٌ لا تَعني النساءَ غالِباً، ولا تَلفتُ انتباهَهُنّ، ولو اكْتُفِيَ بشهادةِ امرأةٍ

(١) جاء في كتاب شبهات المشككين ما نصه:
١٣١- أن شهادة المرأة نصف شهادة الرجل
الرد على الشبهة:
أما الشبهة الثانية والزائفة التى تثار حول موقف الإسلام من شهادة المرأة.. التى يقول مثيروها: إن الإسلام قد جعل المرأة نصف إنسان، وذلك عندما جعل شهادتها نصف شهادة الرجل، مستدلين على ذلك بآية سورة البقرة: (يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه وليكتب بينكم كاتب بالعدل ولا يأب كاتب أن يكتب كما علمه الله فليكتب وليملل الذى عليه الحق وليتق الله ربه ولا يبخس منه شيئاً فإن كان الذى عليه الحق سفيهاً أو ضعيفاً أو لا يستطيع أن يمل هو فليملل وليه بالعدل واستشهدوا شهيدين من رجالكم فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان ممن ترضون من الشهداء أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى ولا يأب الشهداء إذا ما دُعُوا ولا تسأموا أن تكتبوه صغيرًا أو كبيرًا إلى أجله ذلكم أقسط عند الله وأقوم للشهادة وأدنى ألا ترتابوا إلا أن تكون تجارة حاضرة تديرونها بينكم فليس عليكم جناح ألا تكتبوها وأشهدوا إذا تبايعتم ولا يضار كاتب ولا شهيد وإن تفعلوا فإنه فسوق بكم واتقوا الله ويعلمكم الله والله بكل شىء عليم) (١).
ومصدر الشبهة التى حسب مثيروها أن الإسلام قد انتقص من أهلية المرأة، بجعل شهادتها على النصف من شهادة الرجل: [فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان] هو الخلط بين " الشهادة " وبين " الإشهاد " الذى تتحدث عنه هذه الآية الكريمة.. فالشهادة التى يعتمد عليها القضاء فى اكتشاف العدل المؤسس على البينة، واستخلاصه من ثنايا دعاوى الخصوم، لا تتخذ من الذكورة أو الأنوثة معيارًا لصدقها أو كذبها، ومن ثم قبولها أو رفضها.. وإنما معيارها تحقق اطمئنان القاضى لصدق الشهادة بصرف النظرعن جنس الشاهد، ذكرًا كان أو أنثى، وبصرف النظر عن عدد الشهود.. فالقاضى إذا اطمأن ضميره إلى ظهور البينة أن يعتمد شهادة رجلين، أو امرأتين، أو رجل وامرأة، أو رجل وامرأتين، أو امرأة ورجلين، أو رجل واحد أو امرأة واحدة.. ولا أثر للذكورة أو الأنوثة فى الشهادة التى يحكم القضاء بناءً على ما تقدمه له من البينات..
أما آية سورة البقرة، والتى قالت: [واستشهدوا شهيدين من رجالكم فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان ممن ترضون من الشهداء أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى] فإنها تتحدث عن أمر آخر غير" الشهادة " أمام القضاء.. تتحدث عن " الإشهاد " الذى يقوم به صاحب الدين للاستيثاق من الحفاظ على دَيْنه، وليس عن " الشهادة " التى يعتمد عليها القاضى فى حكمه بين المتنازعين.. فهى - الآية - موجهة لصاحب الحق الدَّيْن وليس إلى القاضى الحاكم فى النزاع.. بل إن هذه الآية لا تتوجه إلى كل صاحب حق دَيْن ولا تشترط ما اشترطت من مستويات الإشهاد وعدد الشهود فى كل حالات الدَّيْن.. وإنما توجهت بالنصح والإرشاد فقط النصح والإرشاد إلى دائن خاص، وفى حالات خاصة من الديون، لها ملابسات خاصة نصت عليها الآية.. فهو دين إلى أجل مسمى.. ولابد من كتابته.. ولابد من عدالة الكاتب. ويحرم امتناع الكاتب عن الكتابة.. ولابد من إملاء الذى عليه الحق.. وإن لم يستطع فليملل وليه بالعدل.. والإشهاد لا بد أن يكون من رجلين من المؤمنين.. أو رجل وامرأتين من المؤمنين.. وأن يكون الشهود ممن ترضى عنهم الجماعة.. ولا يصح امتناع الشهود عن الشهادة.. وليست هذه الشروط بمطلوبة فى التجارة الحاضرة.. ولا فى المبايعات..
ثم إن الآية ترى فى هذا المستوى من الإشهاد الوضع الأقسط والأقوم.. وذلك لا ينفى المستوى الأدنى من القسط..
ولقد فقه هذه الحقيقة حقيقة أن هذه الآية إنما تتحدث عن " الإشهاد" فى دَيْن خاص، وليس عن الشهادة.. وإنها نصيحةوإرشاد لصاحب الدَّيْن ذى المواصفات والملابسات الخاصة وليست تشريعاً موجهاً إلى القاضى الحاكم فى المنازعات.. فقه ذلك العلماء المجتهدون..
ومن هؤلاء العلماء الفقهاء الذين فقهوا هذه الحقيقة، وفصّلوا القول فيها شيخ الإسلام ابن تيمية [٦٦١٧٢٨ هجرية /١٢٦٣ ١٣٢٨] وتلميذه العلامة ابن القيم [٦٩١٧٥١ هجرية / ١٢٩٢ ١٣٥٠م] من القدماء والأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده [١٢٦٥١٣٢٣ هجرية] والإمام الشيخ محمود شلتوت [١٣١٠١٣٨٣ هجرية /١٨٩٣١٩٦٣م] من المحدثين والمعاصرين فقال ابن تيمية فيما يرويه عنه ويؤكد عليه ابن القيم:
قال عن " البينة " التى يحكم القاضى بناء عليها.. والتى وضع قاعدتها الشرعية والفقهية حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: " البينة على المدعى، واليمين على المدعى عليه " رواه البخارى والترمذى وابن ماجه:
" إن البينة فى الشرع، اسم لما يبيّن الحق ويظهره، وهى تارة تكون أربعة شهود، وتارة ثلاثة، بالنص فى بينة المفلس، وتارة شاهدين، وشاهد واحد، وامرأة واحدة، وتكون نُكولاً (٢)، ويمينًا، أو خمسين يميناً أو أربعة أيمان، وتكون شاهد الحال.
فقوله صلى الله عليه وسلم: " البينة على المدعى "، أى عليه أن يظهر ما يبيّن صحة دعواه، فإذا ظهر صدقه بطريق من الطرق حُكِم له.. " (٣) فكما تقوم البينة بشهادة الرجل الواحد أو أكثر، تقوم بشهادة المرأة الواحدة، أو أكثر، وفق معيار البينة التى يطمئن إليها ضمير الحاكم - القاضى -..
ولقد فصّل ابن تيمية القول فى التمييز بين طرق حفظ الحقوق، التى أرشدت إليها ونصحت بها آية الإشهاد - الآية ٢٨٢ من سورة البقرة وهى الموجهة إلى صاحب " الحق الدَّين " وبين طرق البينة، التى يحكم الحاكم القاضى بناء عليها.. وأورد ابن القيم تفصيل ابن تيمية هذا تحت عنوان [الطرق التى يحفظ بها الإنسان حقه].. فقال:
" إن القرآن لم يذكر الشاهدين، والرجل والمرأتين فى طرق الحكم التى يحكم بها الحاكم، وإنما ذكر النوعين من البينات فى الطرق التى يحفظ بها الإنسان حقه، فقال تعالى: (يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه وليكتب بينكم كاتب بالعدل ولا يأب كاتب أن يكتب كما علمه الله فليكتب وليملل الذى عليه الحق وليتق الله ربه ولا يبخس منه شيئاً فإن كان الذى عليه الحق سفيها أو ضعيفا أو لا يستطيع أن يمل هو فليملل وليه بالعدل واستشهدوا شهيدين من رجالكم فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان ممن ترضون من الشهداء) (٤).. فأمرهم، سبحانه، بحفظ حقوقهم بالكتاب (٥)، وأمر من عليه الحق أن يملى الكاتب، فإن لم يكن ممن يصح إملاؤه أملى عنه وليه، ثم أمر من له الحق أن يستشهد على حقه رجلين، فإن لم يجد فرجل وامرأتان، ثم نهى الشهداء المتحملين للشهادة عن التخلف عن إقامتها إذا طُلبوا لذلك، ثم رخّص لهم فى التجارة الحاضرة ألا يكتبوها، ثم أمرهم بالإشهاد عند التبايع، ثم أمرهم إذا كانوا على سفر ولم يجدوا كاتباً، أن يستوثقوا بالرهان المقبوضة.
كل هذا نصيحة لهم، وتعليم وإرشاد لما يحفظون به حقوقهم، وما تحفظ به الحقوق شئ وما يحكم به الحاكم [القاضى] شئ، فإن طرق الحكم أوسع من الشاهد والمرأتين، فإن الحاكم يحكم بالنكول، واليمين المردودة ولا ذكر لهما فى القرآن وأيضاً: فإن الحاكم يحكم بالقرعة بكتاب الله وسنة رسوله الصريحة الصحيحة.. ويحكم بالقافة (٦) بالسنة الصريحة الصحيحة التى لا معارض لها ويحكم بالقامة (٧) بالسنة الصحيحة الصريحة، ويحكم بشاهد الحال إذا تداعى الزوجان أو الصانعان متاع البيت والدكان، ويحكم، عند من أنكر الحكم بالشاهد واليمين بوجود الآجر فى الحائط، فيجعله للمدعى إذا كان جهته وهذا كله ليس فى القرآن، ولا حكم به رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا أحد من أصحابه..
فإن قيل: فظاهر القرآن يدل على أن الشاهد والمرأتين بدلٌ عن الشاهدين، وأنه لا يُقْضَى بهما إلا عند عدم الشاهدين.
قيل: القرآن لا يدل على ذلك، فإن هذا أمر لأصحاب الحقوق بما يحفظون به حقوقهم، فهو سبحانه أرشدهم إلى أقوى الطرق، فإن لم يقدروا على أقواها انتقلوا إلى ما دونها.. وهو سبحانه لم يذكر ما يحكم به الحاكم، وإنما أرشدنا إلى ما يحفظ به الحق، وطرق الحكم أوسع من الطرق التى تُحفظ بها الحقوق " (٨)..
وبعد إيراد ابن القيم لهذه النصوص نقلاً عن شيخه وشيخ الإسلام ابن تيمية علق عليها، مؤكداً إياها، فقال: " قلت [أى ابن القيم] : وليس فى القرآن ما يقتضى أنه لا يُحْكَم إلا بشاهدين، أو شاهد وامرأتين، فإن الله سبحانه إنما أمر بذلك أصحاب الحقوق أن يحفظوا حقوقهم بهذا النِّصاب، ولم يأمر بذلك الحكام أن يحكموا به، فضلاً عن أن يكون قد أمرهم ألا يقضوا إلا بذلك. ولهذا يحكم الحاكم بالنكول، واليمين المردودة، والمرأة الواحدة، والنساء المنفردات لا رجل معهن، وبمعاقد القُمُط (٩)، ووجوه الآجرّ، وغير ذلك من طرق الحكم التى تُذكر فى القرآن.. فطرق الحكم شئ، وطرق حفظ الحقوق شئ آخر، وليس بينهما تلازم، فتُحفظ الحقوق بما لا يحكم به الحاكم مما يعلم صاحب الحق أنه يحفظ به حقه، ويحكم الحاكم بما لا يحفظ به صاحب الحق حقه، ولا خطر على باله.. " (١٠).
فطرق الإشهاد، فى آية سورة البقرة التى تجعل شهادة المرأتين تعدل شهادة رجل واحد هى نصيحة وإرشاد لصاحب الدَّين ذى الطبيعة الخاصة -.. وليست التشريع الموجه إلى الحاكم القاضى والجامع لطرق الشهادات والبينات.. وهى أيضاً خاصة بدَيْن له مواصفاته وملابساته، وليست التشريع العام فى البينات التى تُظهر العدل فيحكم به القضاة..
* وبعد هذا الضبط والتمييز والتحديد.. أخذ ابن تيمية ي


الصفحة التالية
Icon