إِنَّ الأَنْسَبَ هو خَتْمُ الآيةِ بالترغيبِ بالمغفرةِ والرحمة، وهذا التَّرغيبُ
ليسَ للذي يُكْرِهُهُنَّ على البِغاء، إِنما هو ترغيِبٌ لهن، فقد يَزْنينَ مُكْرَهاتٍ
نافرات، فَتَدْعوهُنَّ الآيةُ إِلى التوبةِ والاستغفار، واللهُ غفورٌ رحيم، يَغفرُ لهنَّ
ويَرْحَمُهُن!.
أَمّا الذي يُكْرِهُهُنَّ فإنَّ الله سيحاسِبُه ويُعَذِّبُه.
والتقدير: ومَنْ يُكْرِهْهُنَّ فسوفَ يُحاسبه الله، أَمّا هُنَّ فإِنَّ اللهَ سيغفرُ لهنّ؟
لأَنَّه غَفورٌ رحيم.
***
حول الشهود على الزنى
اعترض الفادي المجرمُ على قولِ اللهِ وَبَئ: (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (٤).
تُحَذِّرُ الآية ُ من الحديثِ عنِ الأَعراضِ والاتِّهامِ بالزِّنى، وتُطالِبُ
المُسْلِمِينَ بالاحتياطِ والحَذَرِ والتَّشَدُّد، وذلكَ بالإِتيانِ بأَربعةِ شُهود، شاهَدوا
الرجلَ يَزْني بالمرأة، فإِنْ لم يَشْهد الأَربعةُ على ذلك جُلِدوا حَدَّ القَذْف.
وعَلَّق الفادي على ذلك مُعْتَرِضاً فقال: " ونحنُ نسأل: كيِفَ يَتَسَنّى لأَربعةٍ
أَنْ يَكونوا شُهوداً لحادثةٍ فِيها دائماً كتمان وسِرِّيَّة؟
وكيفَ يُحْكمُ بالجلدِ ثمانينَ جلدةً على ثلاثةِ شُهود، ولو رأوْا بأَعْيُنِهم ارتكابَ الحادث وشهِدُوا عليه؛ لأَنَّه ليسَ معهم شاهِدٌ رابع؟
إِنَّ المطالبةَ بأَربعةِ شهودٍ أَقربُ إِلى المستحيل، وتعجيزٌ وتعطيل، بهدفِ تبرئةِ المذنب " (١).
يعترضُ الفادي على طلبِ إِحضارِ أَربعةِ شُهود، رَأَوُا الزّنى بأَعينهِم " لأَنَّ
هذا شِبْهُ مستَحيل، ولأَنَّ الزِّنى يكونُ غالِباً في مكانٍ خاصّ، فالهدفُ من
اشتراطِ أَربعةِ شُهودٍ هو تبرئةُ الزَّانِيَيْنِ، وتَعطيلُ الحَدّ!.

(١) جاء في كتاب شبهات المشككين ما نصه:
١٢٨- حد الزنا
الرد على الشبهة:
إن جريمة الزنا لهى من أقذر الجرائم حتى أنكرها كل دين، بل وأنكرها العقلاء والراشدون من الناس، كما أنكرها أصحاب المدنية الغربية جهرًا وإن قبلوها سرًا وذلك لما فيها من عدوان على حقوق الأزواج ومن اختلاط للأنساب وحل لروابط الأسرة وقتل لما فى قلوب الآباء من عطف وحنان على الأبناء، ورعاية وبذلٍ سخى لهم بما يبلغ حد التضحية بالراحة والنفس، الأمر الذى لا يكون إلا إذا ملأت عاطفة الأبوة قلوب الآباء وذلك لا يكون إلا إذا وقع فى قلوب الآباء وقوعًا محققًا أن هؤلاء الأبناء من أصلابهم.
ثم لعلك لا تعجب لما تقرأ من الأخبار الواردة إلينا من أمريكا وأوروبا عن آباء قتلوا أولادهم بأيديهم وأتوا على الأسرة كلها فى لحظة واحدة دون أن ينبض فيهم شعور بالتردد قبل الجريمة أو الندم بعدها، وذلك شفاء لما فى نفوسهم من شكوك فى صحة نسب هؤلاء الأبناء إليهم حتى لقد تحولت هذه الشكوك إلى عواطف من الجنون الذى أفقد هؤلاء الآباء كل شعور إنسانى نحو الأبناء المشكوك فى نسبهم، وهيهات أن يخلو شعور أوروبى من الشك فى نسبة أبنائه إليه مع هذه الإباحية المطلقة للجمع بين النساء والرجال فى أى مكان وأى زمان.
فإن أراد الإسلام أن يحارب هذه الجريمة برصد هذه العقوبة الرادعة - الرجم للمحصن، والجلد لغير المحصن - كان ذلك عند أعداء الإسلام تهمة شنيعة يرمونه بها ويحاكمونه عليها ليخرجوه من حدود الإنسانية المتحضرة إلى عالم سكان الأدغال ورعاة الإبل والشياه فى الصحارى.
ويقولون: كيف يحكم الإسلام بإهدار آدمية الإنسان حتى يأمر بجلده على مرائى ومسمع من الناس؟ ثم كيف تصل الوحشية فى قسوتها إلى أن يُلقى بالإنسان فى حفرة ثم تتناوله الأيدى رجماً بالحجارة إلى أن يموت.
هكذا يقولون (كبرت كلمة تخرج من أفواههم إن يقولون إلا كذباً) (١).
ولا ننكر أن فى شريعة الإسلام حكم الجلد والرجم يقول الله تعالى: (الزانية والزانى فاجلدوا كل واحدٍ منهما مائة جلدة ولا تأخذكم بهما رأفة فى دين الله إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين) (٢).
وقال رسول الله ﷺ [لا يحل دم امرئٍ مسلم إلا بإحدى ثلاث: الثيب الزانى، والنفس بالنفس، والتارك لدينه المفارق للجماعة] (٣).
والنظام الإسلامى كل متكامل لا تفهم جزئياته إلا فى نسق واحد.
فإن الإسلام قد حرّم النظر إلى " الأجنبيات " قال رسول الله ﷺ [النظرة سهم من سهام إبليس مسمومة فمن تركها من خوف الله أثابه إيماناً يجد حلاوته فى قلبه] (٤). وكذلك أمر النساء ألا يظهرن الزينة إلا للأزواج أو الأقارب من الصلب الذين لا يُخشى منهم فتنة. قال الله تعالى: (يا أيها النبى قل لأزواجك وبناتك ونساء المؤمنين يدنين عليهن من جلابيبهن) (٥)، وقال:
(وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن) (٦). وأمر أيضاً ألا يختلى رجل بامرأة لا تحل له قال رسول الله ﷺ [ما اجتمع رجل وامرأة إلا وكان الشيطان ثالثهما].
وحرم أيضاً أن يمس الرجل امرأة لا تحل له فقال رسول الله ﷺ [لئن تضرب بمخيط فى رأسك فتدمى به رأس خير لك من أن تمس امرأة لا تحل لك]. وقبل هذا كله فقد استطاع الإسلام أن يربى الضمير فى الرجل والمرأة على حد سواء على ضوء ما جاء فى قصة ماعزو الغامدية.
والإسلام كذلك حض الشباب على إخراج هذه الشهوة فى منفذها الشرعى بالزواج. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج فإنه أغض للبصر وأحفظ للفرج ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء] (٧) أى قاطع للشهوة.
وكذلك رخص للرجل أن يتزوج بامرأة واحدة أو اثنين أو ثلاثة أو أربع مادام يملك النفقة ويستطيع العدل.
وأمر أولياء الأمور أن لا يغالوا فى مهور بناتهم فقال رسول الله ﷺ [إذا جاءكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه إلا تفعلوا تكن فتنة فى الأرض وفساد كبير] (٨). وأمر الأغنياء أن يساعدوا الشباب فى نفقات الزواج. وقد قام الخليفة العادل عمر بن عبد العزيز بتزويج الشباب والفتيات من بيت مال المسلمين.
هذا كله هو بعض ملامح الإسلام فى تيسير أمر إخراج هذه الشهوة بطريق مشروع، والحقيقة أن مثل هذه الشنيعة لا تحصل فى المجتمع المسلم - الذى تسوده الفضيلة - إلا بعد تدبير عظيم من كلا الطرفين يدل على إجرام كلا الطرفين ولكن مع كل هذا فإن شريعة الإسلام قد وضعت شروط من الصعب جدًا توافرها قبل إيقاع العقوبة.
فإن لم تتوفر مجتمعة لا يقام الحد على صاحب هذه الفعلة جلداً كان أو رجماً وهذه هى الشروط:
١ - لابد حتى تثبت الجريمة من شهادة أربعة شهود عدول يشهدون بأنهم رأوا من الرجل والمرأة ما يكون بين الرجل وزوجته من اتصال مباشر، الأمر الذى لا يكاد يراه أحدٌ من البشر.
وكأن الشريعة لا ترصد هذه العقوبة على هذه الفعلة بوصفها ولكنها ترصدها على شيوع هذه الفعلة على الملأ من الناس بحيث لا يبغى بين الناس من يعرف معروفاً ولا ينكر منكراً.
٢ - إن الشريعة الإسلامية تقرر درء الحدود بالشبهات بمعنى أن أى شك فى شهادة الشهود يفسر لصالح المتهم فيسقط بذلك الحد. قال رسول الله ﷺ [ادرءوا الحدود بالشبهات] (٩).
٣ - فرضت الشريعة عقوبة الجلد ثمانين جلدة على من قذف محصنة ثم لم يأت بأربعة يشهدون بأنهم رأوا منها ومن المقذوف بها ما يكون بين الزوج وزوجته قال الله تعالى: (والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة ولا تقبلوا لهم شهادة أبداً وأولئك هم الفاسقون) (١٠).
٤ - رغبت الشريعة الإسلامية فى التستر على عورات المسلمين وإمساك الألسنة عن الجهر بالفواحش وإن كانت وقعت، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم
[لرجل جاء يشهد: هلا سترتهما بثوبك] يقول الله تعالى: (إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة فى الذين آمنوا لهم عذاب أليم فى الدنيا والآخرة والله يعلم وأنتم لا تعلمون) (١١).
أبعد هذا كله يتخرص متخرص ويقول: إن الإسلام يظلم الإنسان ويهدر أدميته حين يأخذ أولئك الذين يأتون الفاحشة على أعين بما يأخذهم به من جلد بالسياط. وفضح بين الملأ من الناس.
أفلا يسأل هؤلاء المتخرصون أنفسهم ماذا يبقى للإنسان من آدميته وكرامته إذا تركت هذه الفاحشة يعالى بها بعض الآدميين من غير استحياء ثم لا يضرب على أيديهم أحد. إن إنساناً توفرت له كل هذه الميسرات وتجرأ على الترتيب لهذه الفعلة الشنيعة. ثم افتضح حاله حين يراه هذا العدد فى هذا الوضع. إن إنساناً فى مثل هذا الحال لهو إنسان مفسد ضال مضل ولو لم يتم بتره أو تربيته فإن هذا يشكل خطراً على المجتمع كله.
والمتحدثون عن حقوق الإنسان يقولون لا بأس من أن يحبس قترة من الزمن ثم يخرج لكى يمارس عمله ولا يعلمون أن مثل هذا الحبس سوف يمكنه من أن يخالط من هو أجرم منه ليتعلم منه ويعلمه ويخرجان إلى المجتمع بعد أن أصبحا إمامين فى الضلال ليضلا الناس عن طريق رب الناس وهذا هو المشاهد.
فضلاً عن الذى يترتب على الحد من تكفير لهذا الذنب.
وإن المتتبع لا يجد هذه العقوبة قد نفذت " حال تنفيذ العقوبات " إلا فى أعداد محدودة ولا ضرر فى هذا مادام قد وفر الأمن والاستقرار للمجتمع. اهـ (شبهات المشككين).
__________
(١) الكهف: ٥.
(٢) النور: ٢.
(٣) رواه مسلم.
(٤) رواه الحاكم فى المستدرك.
(٥) الأحزاب: ٥٩.
(٦) النور: ٣١.
(٧) رواه البخارى.
(٨) رواه ابن ماجه.
(٩) رواه الترمذى.
(١٠) النور: ٤.
(١١) النور: ١٩.


الصفحة التالية
Icon