﴿قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ﴾ على الناس جميعاً؛ حيث لا حجة لأحد عليه؛ وحجته تعالى تقطع كل المعاذير، وتزيل سائر الشكوك: ألم يرسل لعباده الرسل، وينزل عليهم الكتب؛ ويسلكها في قلوب الكافرين لعلهم يؤمنون؟ فأي عذر بعد ذلك للجاحد المعاند؟ ألم يبذل له خالقه كل السبل الموصلة إلى معرفته فأعرض عنها واتبع هواه؟ ألم يقم له الدليل تلو الدليل على قدرته ووحدانيته فأبى إلا ضلالاً وخبالاً؟ وهل بعد هذا تقوم له حجة بقوله ﴿لَوْ شَآءَ اللَّهُ مَآ أَشْرَكْنَا وَلاَ آبَاؤُنَا﴾ وهي كلمة حق أريد بها باطل؛ لقد قال العظيم الكريم ﴿وَلاَ يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ﴾ فكيف يريد ما لا يرضى؟ بل كيف يعذب على ما أراد؟ فيا أيها الكافر الفاجر؛ المشرك بربه، المجترىء على خالقه: لقد هداك ربك إلى معرفته فأنكرت، ودعاك إلى رحمته فأعرضت، وسلك الإيمان في قلبك فأبيت وبعد ذلك تريد أن تتستر وراء منطق الجهال، وقول الضلال: ﴿لَوْ شَآءَ اللَّهُ مَآ أَشْرَكْنَا وَلاَ آبَاؤُنَا﴾ ونسيت قول الحكيم العليم: ﴿لِمَن شَآءَ مِنكُمْ أَن يَسْتَقِيمَ﴾ (
انظر آيتي ٢٠٠ من سورة الشعراء، و٢٨ من سورة التكوير)
﴿قُلْ هَلُمَّ شُهَدَآءَكُمُ﴾ أي هاتوا شهداءكم ﴿فَإِن شَهِدُواْ﴾ أي فإن شهد شهداؤهم زوراً بأن الله تعالى حرم ما حرموه من حرثهم وأنعامهم ﴿فَلاَ تَشْهَدْ مَعَهُمْ﴾ أي فلا تجالسهم ولا تخاطبهم ﴿وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَآءَ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا﴾ لأنهم تركوا الحق الذي أنزل إليك، واتبعوا أهواءهم ﴿وَهُم بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ﴾ أي يجعلون له عدلاً. والعدل: المثل
﴿وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلاَدَكُمْ مِّنْ إمْلاَقٍ﴾ من فقر ﴿نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ﴾ وخوف الإملاق: كفر بالخلاق فقد خلق الله تعالى الخلق وتكفل بأرزاقهم - ولو كانوا في مهمه قفر - ألا ترى أنه تعالى يرزق الحشرة داخل الصخر الأصم؟ ﴿وَلاَ تَقْرَبُواْ الْفَوَاحِشَ﴾ الكبائر ﴿مَا ظَهَرَ مِنْهَا﴾ كالقتل، والسب ﴿وَمَا بَطَنَ﴾ كالزنا والغيبة. وقيل: أريد به سر الزنا وعلانيته ﴿وَلاَ تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ﴾ الذي يوجب قتلها؛ كقتل القاتل، أو القتل دفاعاً عن النفس، وأمثال ذلك
﴿وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾ وهي أن تستثمروه له، وأن تؤدوا زكاته ﴿حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ﴾ بلوغ الأشد: هو قوة البدن، وزيادة المعرفة بالتجربة؛ وهو ما بين ثماني عشرة إلى ثلاثين. وهو أيضاً بلوغ الحلم ﴿وَأَوْفُواْ الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ﴾ بالعدل ﴿لاَ نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا﴾ أي لا نكلفها إلا طاقتها - في إيفاء الكيل والوزن - وقد جاء ذلك الضابط خشية التحرج والتأثم؛ فيضطر البائع إلى زيادة المكيل والموزون، ويضطر المشتري بدوره إلى أخذ ما يقل عن استحقاقه
-[١٧٧]- فيهما؛ وبذلك تضيق صدورهما؛ لذلك أمر الله تعالى بالوفاء في الكيل والميزان في حدود الطاقة البشرية؛ بغير ما ظلم ولا غبن ﴿وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُواْ﴾
أي إذا حكمتم بين الناس، أو أديتم شهادة؛ فاحكموا بينهم وأدوا الشهادة بالعدل ﴿وَلَوْ كَانَ﴾ المحكوم عليه أو المشهود ضده ﴿ذَا قُرْبَى﴾ وذلك عهد الله تعالى عهد به إليكم ﴿وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُواْ﴾ لتؤجروا، وتذوقوا حلاوة الطاعة وعزها، وتتجنبوا مرارة المعصية وذلها (انظر آية ١٤ من سورة لقمان)


الصفحة التالية
Icon