﴿وَنَادَى أَصْحَابُ الأَعْرَافِ رِجَالاٍ﴾ من أصحاب النار ﴿يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيمَاهُمْ﴾ بهيئاتهم التي كانوا يعرفونهم بها في الدنيا، وبكفرهم وكبرهم ﴿قَالُواْ﴾ لهم ﴿مَآ أَغْنَى عَنكُمْ﴾ من النار ﴿جَمْعُكُمْ﴾ كثرتكم واجتماعكم في الدنيا ﴿وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ﴾ عن الإيمان بالله، وتتعالون على مخلوقاته. ويشيرون إلى أهل الجنة؛ قائلين لأهل النار
﴿أَهَؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ﴾ في الدنيا أنهم ﴿لاَ يَنَالُهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ﴾ منه، ولا يدخلهم جنته، وها هو قد قيل لهم ﴿ادْخُلُواْ الْجَنَّةَ لاَ خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلاَ أَنتُمْ تَحْزَنُونَ﴾ وقيل: يقال ﴿ادْخُلُواْ الْجَنَّةَ﴾ لأهل الأعراف
﴿فَالْيَوْمَ نَنسَاهُمْ﴾ نتركهم في العذاب كالمنسيين ﴿كَمَا نَسُواْ لِقَآءَ يَوْمِهِمْ هَذَا﴾ فلم يعملوا له ﴿وَمَا كَانُواْ بِآيَاتِنَا﴾ كتبنا التي أنزلناها على رسلنا ﴿يَجْحَدُونَ﴾ ينكرون ويكذبون
﴿وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ﴾ هو القرآن الكريم ﴿فَصَّلْنَاهُ﴾ بيّناه؛ بالقصص والأخبار، والوعد، والوعيد، وفصلنا فيه بين الحق والباطل ﴿عَلَى عِلْمٍ﴾ منا بحق ما بيناه، وصحة ما فصلناه ﴿هُدًى﴾ لمن اتبعه ﴿وَرَحْمَةً﴾ لمن تمسك به
﴿هَلْ يَنظُرُونَ﴾ ما ينتظرون ﴿إِلاَّ تَأْوِيلَهُ﴾ أي إلا أن يأتي ما وعدوا به في القرآن من البعث والحساب، وما يستتبعه من العذاب
﴿يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ﴾ يوم القيامة؛ وحينئذ ﴿يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِن قَبْلُ﴾ أي نسوا الوعد والوعيد في الدنيا ﴿لَقَدْ جَآءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ﴾ فقد تحقق الآن ما أنذرونا به ﴿أَوْ نُرَدُّ﴾ إلى الدنيا ﴿فَنَعْمَلَ﴾ فيها من الصالحات ﴿غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ﴾ من السيئات ﴿قَدْ خَسِرُواْ أَنْفُسَهُمْ﴾ بأن ألقوا بها في الجحيم والعذاب الأليم ﴿وَضَلَّ عَنْهُم﴾ غاب ﴿مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ﴾ أي ما كانوا يعبدونه من الأصنام
﴿ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ﴾ استواء يليق به؛ وليس كاستواء المخلوقين؛ لأن الديان يتقدس عن المكان، وتعالى المعبود عن الحدود ﴿أَيُّ﴾ يغطيه بظلامه ﴿يَطْلُبُهُ حَثِيثاً﴾ سريعاً ﴿وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ﴾ سائرات بقدرته، منظمات للكون بارادته؛ كل منها يعمل في الحدود التي رسمها له خالقه ﴿أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ﴾ جميعاً؛ من ملك، وإنسان، وجن، وحيوان، ونبات، وجماد ﴿وَالأَمْرُ﴾ كله له لا يشاركه فيه أحد من خلقه ﴿تَبَارَكَ﴾ تعالى وتعاظم
﴿ادْعُواْ رَبَّكُمْ﴾ اعبدوه ﴿تَضَرُّعاً﴾ تذللاً واستكانة لطاعته ﴿وَخُفْيَةً﴾ بخشوع قلوبكم، وصحة يقينكم؛ لا مجاهرين بذلك؛ بقصد المراءاة؛ كشأن أهل النفاق ولقد كان من سبقنا من علية القوم ما من عمل يقدرون على أن يعملوه في السر؛ فيكون علانية أبداً، وكانوا لا يعملون في الجهر إلا ما قصد به وعظ الغير إلى ما اتعظوا به، وهدايتهم إلى ما اهتدوا أو أريد بالدعاء: السؤال والطلب؛ وقد كانوا يجهدون في الدعاء؛ فلا يسمع لهم صوت
-[١٨٧]- إن كان فلا يكون إلا همساً بينهم وبين ربهم - هذا وقد ذكر الله عبداً صالحاً من عباده فرضي فعله؛ فقال ﴿إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَآءً خَفِيّاً﴾ ﴿إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ﴾
المتجاوزين للحد في رفع الصوت بالدعاء، أو المتجاوزين لحد الأدب في الدعاء؛ كمن يطلب رتبة النبيين، أو كمن يسأل ما لا يجوز عقلاً؛ ومن المعلوم أن إرادة الله تعالى لا تتعلق بمستحيل، فلا يجوز أن يدعو إنسان ربه قائلاً: يا رب اجعل هذا النهر لبناً سائغاً، أو عسلاً صافياً؛ فهذا - ولو أنه غير مستحيل على قدرة الله تعالى - فإنه مستحيل عقلاً وعادة؛ ومثل هذا الداعي ساخر بدينه، مستهزىء بربه


الصفحة التالية
Icon