﴿عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ﴾ رب العالمين
﴿الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ﴾ أي أحسن خلق كل شيء خلقه. فلو تصورت مثلاً أن للفيل مثل رأس الجمل، أو للجمل مثل رأس الأسد، أو للإنسان مثل رأس الحمار: لوجدت في ذلك خللاً عظيماً، ونقصاً كبيراً؛ وعدم تناسب في الخلقة، وانعدام الانسجام بين الأعضاء مع حاجة المخلوق إليها على حالتها؛ بالنسبة لبيئته ورغبته؛ لأنك لو علمت أن طول عنق الجمل وشق شفته: سببه حاجة الناس إليه في الأسفار الطويلة، وحاجته هو إلى تناول الكلإ أثناء سيره. وأن الفيل لولا خرطومه الطويل: لما استطاع أن يبرك بجسمه الثقيل ليتناول طعامه وشرابه. وهكذا سائر المخلوقات من شتى الصور والأجناس؛ حتى الجمادات فقد اختصها الله تعالى بأشكال جذابة يسرح البصر في محاسنها، وألوان خلابة يتوه الفكر في مفاتنها فإنك لو تأملت ذلك، وتدبرت ما هنالك: لتيقنت أنه ليس في مقدور البشر، وأنه ﴿صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ﴾ ﴿فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ﴾ ﴿وَبَدَأَ خَلْقَ الإِنْسَانِ مِن طِينٍ﴾ وهو آدم عليه السلام
﴿ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِن سُلاَلَةٍ﴾ خلاصة؛ وهي المني. و «السلالة»: ما انسل من الشيء؛ سمي به المني: لأنه ينسل من سائر البدن، أو هو ينسل من النخاع ﴿يَخْرُجُ مِن بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَآئِبِ﴾ ﴿مِّن مَّآءٍ مَّهِينٍ﴾ ضعيف: لا قوة فيه، ولا أثر له بنفسه: وهو النطفة
﴿ثُمَّ سَوَّاهُ﴾ جعله مستوي الأعضاء، تام الخلقة، جميل الصورة ﴿وَنَفَخَ فِيهِ مِن رُّوحِهِ﴾ المملوكة له تعالى؛ والتي لا يستطيع مخلوق أن يهبها ﴿وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ﴾ الذي به تسمعون، وعنه تسألون ﴿وَالأَبْصَارَ﴾ التي بها تبصرون، وعنها تحاسبون ﴿وَالأَفْئِدَةَ﴾ التي بها تعقلون، وبواسطتها تهتدون. وكل هؤلاء جعلها الله تعالى أداة لتلقي الإيمان، وقبول الهداية؛ والإنسان عن جميعها مؤاخذ مسؤول ألا ترى إلى قول العزيز الجليل «إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولاً»
﴿وَقَالُواْ أَإِذَا ضَلَلْنَا فِي الأَرْضِ﴾ أي إذا متنا وصرنا حطاماً ورفاتاً، واختلطنا بتراب الأرض، وضاعت معالم أجسامنا ﴿أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ﴾ أي نخلق خلقاً جديداً بعد هذا؟
﴿قُلْ﴾ لهم يا محمد: نعم ﴿يَتَوَفَّاكُم مَّلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ﴾ أي كلف بقبض أرواحكم ﴿ثُمَّ﴾ تبعثون، و ﴿إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ﴾ يوم القيامة، فيعاقبكم بذنوبكم، ويعذبكم على كفركم
﴿وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ﴾ الكافرون، المنكرون للبعث: حين يبعثون ﴿نَاكِسُواْ رُءُوسِهِمْ﴾ مطأطئوها من الذل والخزي والهوان؛ ويقولون ﴿رَبَّنَآ أَبْصَرْنَا﴾ بأعيننا البعث الذي كنا به نكذب ﴿وَسَمِعْنَا﴾ الحق الذي كنا له ننكر ﴿فَارْجِعْنَا﴾ إلى الدنيا ﴿نَعْمَلْ﴾ عملاً ﴿صَالِحاً﴾ كما أمرت ﴿إِنَّا﴾ الآن، بعد ظهور
-[٥٠٦]- البرهان ﴿مُوقِنُونَ﴾ بصحة ألوهيتك، وصدق رسلك


الصفحة التالية
Icon