فمِن أينَ جاءَ هذا الملحُ؟ كيف وُضِعَ في البحرِ؟ هناك نظرياتٌ كثيرةٌ، بعضُها يقول: إنّ في قيعانِ البحارِ صخوراً مِلْحِيّةً تَفَتَّتتْ، وذابتْ في هذا الماءِ، وبعضُهم يقول: إنَّ السببَ مياهُ الأنهارِ، كلُّ هذه النظرياتِ التي تحاولُ أنْ تفسِّرَ ملوحةَ مياهِ البحرِ تجدُ الطريقَ مسدوداً لسببٍ بسيطٍ، هو أنَّ في الأرضِ عدداً كبيراً من البُحيراتِ العَذبةِ، فإذا كانتْ مياهُ الأنهارِ وحْدَها كافيةً لتمليحِ مياهِ البحارِ، فلماذا بقيتْ هذه البحيراتُ الضخمةُ عذبةً حلوةَ المَذاقِ - وهي أَشْبَهُ ما تكونُ ببحارٍ صغيرةٍ - مئاتِ الملايينِ مِن السنين، وما تفسيرُ ذلك؟ لا يزالُ سببُ تكون الملوحةِ في مياهِ البحرِ لُغْزاً كبيراً، ولا يفسَّرُ إلا بالآياتِ التاليةِ، يقول الله تعالى: ﴿وَهُوَ الذي مَرَجَ البحرين هاذا عَذْبٌ فُرَاتٌ وهاذا مِلْحٌ أُجَاجٌ﴾ [الفرقان: ٥٣]، فلن يصبحَ مالحاً؛ ولو صُبَّتْ عليه الأنهارُ، ولو تَفَتَّتَتْ فيه الصخورُ، ولو كانت على مَسِيرِ الأنهارِ جبالٌ من الملحِ، تبقى البحيرةُ العذبةُ عذبةً.
قال تعالى: ﴿وَهُوَ الذي مَرَجَ البحرين هاذا عَذْبٌ فُرَاتٌ وهاذا مِلْحٌ أُجَاجٌ﴾ [الفرقان: ٥٣]، فهذا الملحُ الأجاجُ مِن خَلْق الله، ومِن إرادة الله عزَّ وجل، ﴿وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخاً﴾ [الفرقان: ٥٣]، فلا يبغي هذا على هذا، ولو أن نهراً عذباً صُبَّ في بحرٍ لَسَارَ عشراتٍ، بل مئاتِ الكيلو مترات، وبقي عذباً، لأنّ بَيْنَ البَحْريْنِ برزخاً ما زالتْ طبيعتُه مجهولةً حتى الآن.
أمّا: ﴿وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخاً وَحِجْراً مَّحْجُوراً﴾ [الفرقان: ٥٣] فإنّ الحِجْرَ يمنعُ انتقالَ أسماكِ المياهِ العذبةِ إلى المياهِ المالحة، والعكسُ صحيحٌ.
يقولُ اللهُ عز وجل في سورة الواقعة: ﴿أَفَرَأَيْتُمُ المآء الذي تَشْرَبُونَ * أَأَنتُمْ أَنزَلْتُمُوهُ مِنَ المزن أَمْ نَحْنُ المنزلون * لَوْ نَشَآءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجاً فَلَوْلاَ تَشْكُرُونَ﴾ [الواقعة:
٦٨-٧٠]، فلو شاء لجعله أجاجاً كمياهِ البحرِ | أفلا تشكرون هذه النعمةَ؟!! |