إعراض المشركين عن القرآن حسداً
ثم قال تعالى: ﴿مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ * لاهِيَةً قُلُوبُهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا هَلْ هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ﴾ [الأنبياء: ٢ - ٣].
سمى الله القرآن النازل من عنده ذكراً؛ لأنه تذكرة للخلق، وكذلك نبينا صلوات الله وسلامه عليه وصفه الله عز وجل بأنه ذكر، لأنه يذكر الناس كما ذكر في سورة التغابن.
﴿مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ﴾ [الأنبياء: ٢] يعني هذا القرآن محدث في إنزاله، والقرآن كلام رب العالمين سبحانه ليس مخلوقاً، فهنا الذي حدث هو نزول القرآن من السماء إلى الأرض، وكل القرآن نزل إلى السماء الدنيا دفعة واحدة كما جاء في الأثر عن ابن عباس: أن الله عز وجل أنزل القرآن ليلة القدر إلى السماء الدنيا، ونزل على النبي ﷺ بعد ذلك على حسب الحوادث.
فهنا الإحداث في القرآن معناه: أن مجيء القرآن من عند رب العالمين بحسب الحوادث التي تجد، ﴿مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ﴾ [الأنبياء: ٢] يعني: كلما جاءتهم آية من الآيات من الله عز وجل استمعوا لهذه السور وهم يلعبون، واللعب هنا بمعنى اللهو، فهم يتلهون عن النبي صلوات الله وسلامه عليه ويعرضون عنه.
فحالهم ﴿لاهِيَةً قُلُوبُهُمْ﴾ [الأنبياء: ٣] وأصلها: قلوبهم لاهية، يعني: قلوب هؤلاء القوم في لهو وفي انشغال عن الله عز وجل وعن متابعة النبي ﷺ بما فيها من وساوس وبما فيها من هم الدنيا وبما فيها من إعراض وشرك بالله رب العالمين سبحانه.
﴿وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا﴾ [الأنبياء: ٣] الذي أسروا النجوى هم الذين ظلموا، يعني: الكفار.
(وأسروا): كتموا فيما بينهم.
(النجوى): يتناجون فيما بينهم ويكلم أحدهم الآخر سراً: هذا ساحر هذا كذاب هذا كاهن أتانا بما يفرق بين المرء وزوجة والمرء وأبيه، فيكذبون على النبي ﷺ ويسرون النجوى بظلمهم.
فهم أسروا النجوى قائلين: ﴿هَلْ هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ﴾ [الأنبياء: ٣]؟ يعني: ما هذا إلا بشر مثلكم، فكيف ينزل عليه القرآن ولا ينزل علينا، وهو مثل قولهم: ﴿لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ﴾ [الزخرف: ٣١] يعني: بدل أن ينزل عليه كان سينزل على أحد من كبار القوم كـ الوليد بن المغيرة في مكة أو عروة بن مسعود في الطائف.
فكأنهم استكثروا على النبي ﷺ أن ينزل عليه ربه هذا القرآن غيرة وحسداً، والإنسان عندما يرى أن غيره أحسن منه يغار منه ويحسده، وديننا ينهانا عن ذلك، وربنا تبارك وتعالى يذكر النبي ﷺ أن هذه نعمة أنعم بها عليه، فقال له: ﴿فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ﴾ [الأنعام: ٣٣]، يطمئنه ربه سبحانه أنهم لا يكذبونه بل هم يعرفون أنه الصادق الأمين صلى الله عليه وسلم؛ لكنهم يجحدون بهذه الآيات، فأنت تحكم على ظاهر ما يقولون إذ يقولون: كذاب، لكن الله عز وجل مطلع على ما في القلوب، فهم مصدقون بقلوبهم لكن ألسنتهم جاحدة: ﴿وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ﴾ [الأنعام: ٣٣].
فأسر هؤلاء النجوى فيما بينهم حسداً للنبي ﷺ على ما أتاه الله عز وجل من فضله، لأن كلاً منهم كان يتمنى أن يكون هو النبي، والعرب كانت عادتهم أن يغار بعضهم من بعض، وربنا سبحانه وتعالى يقول: ﴿أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ﴾ [النساء: ٥٤] وكأن هذا اعتراض على الله سبحانه أن نؤتيه من فضله ﴿فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا﴾ [النساء: ٥٤] يعني: ليست هذه أول مرة ينزل الله فيها كتابه ولا أول مرة يؤتي إنساناً الحكمة من لدنه، ﴿فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا﴾ [النساء: ٥٤].
وهنا الكفرة والظلمة يقولون عن النبي صلى الله عليه وسلم: ﴿هَلْ هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ﴾ [الأنبياء: ٣] يعني: كأنهم يريدون أن يرسل إليهم ملك من الملائكة، ولو جاءهم ملك لما أطاقوا ذلك، فالنبي ﷺ لما رأى جبريل بين السماء والأرض على هيئته الحقيقة فزع صلوات الله وسلامه عليه وهرب إلى بيته وقال لزوجته: (زملوني زملوني دثروني دثروني).
وجبريل ما رآه النبي ﷺ على حقيقته إلا مرتين، أما سوى ذلك فكان يراه على هيئة رجل من أصحابه اسمه دحية الكلبي، فكان يأتيه في منظره وجماله وهيئته.
ومن حكمة الله أنه ما أنزل القرآن مع ملك، وإلا لكان الإيمان جبراً وقهراً وقسراً، ولكان قال قائلهم معترضاً: كيف نطيق ما يطيق الملائكة، فجبريل هذا أخذ قرى المؤتفكات ورفعها كلها إلى السماء وقلبها وأتبعها حجارة من السماء، قال تعالى: ﴿وَقَالُوا لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنزَلْنَا مَلَكًا لَقُضِيَ الأَمْرُ ثُمَّ لا يُنظَرُونَ * وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَجَعَلْنَاهُ رَجُلًا وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ﴾ [الأنعام: ٨ - ٩].
يعني: لو جعلناه ملكاً في صورته الحقيقية لكان الإيمان جبرياً، بينما الله عز وجل يريد الإيمان الاختياري من أجل أن يحصل التكليف، ومن ثم الحساب على هذا الاختيار يوم القيامة، وإن كان علمه وقضاؤه وقدره غالباً وسابقاً أن منهم كافراً ومنهم مؤمناً، لكن شاء أن يجعل لك اختياراً وكسباً ليحاسبك على هذا الذي كسبته يوم القيامة، وأنت تستشعر كمال هذا الاختيار فتختار الحق أو الباطل.
المقصود أن الله عز وجل لو أنزل ملكاً فإما أن ينزل الملك في صورته، وهم كانوا يخافون من العفاريت ومن الجن، حتى إنهم إذا مروا بصحراء في سفرهم قال الواحد منهم: أعوذ برب هذا الوادي، فكيف لو نزل ملك من السماء؟ لو نزل ملك لقضي الأمر ولكانوا آمنوا قهراً، وهذا لا يريده الله سبحانه وتعالى.
أما الاحتمال الثاني فهو: أن ينزل الملك على هيئة البشر ﴿وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَجَعَلْنَاهُ رَجُلًا وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ﴾ [الأنعام: ٩]، فإذا نزل على صورة إنسان لرجعوا إلى الاعتراض الأول، وهو أن الرسول بشر.


الصفحة التالية
Icon