تفسير قوله تعالى: (ولقد آتينا داود وسليمان علماً وقالا الحمد لله الذي فضلنا على كثير من عباده المؤمنين)
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
أما بعد: قال الله عز وجل في سورة النمل: ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ عِلْمًا وَقَالا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنَا عَلَى كَثِيرٍ مِنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ * وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُدَ وَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ * وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ * حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِ النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ * فَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا مِنْ قَوْلِهَا وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ﴾ [النمل: ١٥ - ١٩].
هذه قصة ثانية في هذه السورة الكريمة سورة النمل، يذكر الله عز وجل فيها سليمان عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام وما حدث له.
يقول سبحانه: ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ عِلْمًا﴾ [النمل: ١٥] وداود وسليمان من أنبياء بني إسرائيل عليهما وعلى نبينا الصلاة والسلام، آتاهما الله عز وجل علماً، وداود هو الأب وسليمان الابن، قال: ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ عِلْمًا﴾ [النمل: ١٥]، فبعد أن ذكر الله قصة موسى عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام مع فرعون، وكيف أنه دعاه إلى الله عز وجل فأبى فرعون وغره ملكه الذي هو فيه، وبلغ به التطاول أن قال لقومه: ﴿أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى﴾ [النازعات: ٢٤]، فالملك قد يدفع الإنسان إلى الجحود، وإلى الكبر، وإلى عدم قبول الحق، حتى ولو رآه أمام عينيه.
ففرعون دفعه ملكه إلى الكفر بالله حتى قال لقومه: ﴿أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلا تُبْصِرُونَ﴾ [الزخرف: ٥١]، ولكن أنبياء لله عليهم الصلاة والسلام أعطاهم الله عز وجل الملك والنبوة والعلم، فما زادهم ذلك إلا تواضعاً لرب العالمين سبحانه.
ومن هؤلاء: داود وسليمان، ولكن ملك داود لم يكن عظيماً كبيراً كملك سليمان، فقد كان ملكه أعظم بكثير من ملك أبيه، وعبادة أبيه كانت أعظم بكثير من عبادة سليمان.
فقد أعطى الله لداود العبادة فقال: ﴿يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ﴾ [سبأ: ١٠]، وهذا ملك من الملوك، ومع ذلك كان لا يأكل إلا من صنعة يده: ﴿وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ * أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾ [سبأ: ١٠ - ١١].
فعلمه الله عز وجل مهنة صناعة السوابغ من الدروع، وأن يقدر في السرد بتعليم الله عز وجل له، فيعمل الحلقة على حجم المسمار بحيث لا تنفصم الحلقة ولا تنشق عن زميلتها، فلا يزال يصنع هكذا شيئاً فشيئاً حتى يصنع درعاً سابغاً.
وسليمان عليه الصلاة والسلام هو أحد الملوك الذين ملكوا الدنيا، وقد سخر الله عز وجل له الريح يصل بها إلى المكان الذي يريده، وجعل له من الجن والإنس والشياطين جنوداً، بل ومن الطير والدواب كما سيأتي.
وقد كان داود أيضاً يسبح بين الجبال، ومن جمال تسبيحه وصوته، ومن شدة خشوعه تسبح الجبال معه وتردد تسبيحه، وتقف الطير عن الطيران حتى تستمع تأويبه عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام: ﴿يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ﴾ [سبأ: ١٠].
والتأويب: مأخوذ من الأوبة وهي: الرجوع إلى الله، ومعناها هنا أي: رجعي الذي يقوله، وسبحي معه لله سبحانه تائبة إليه، قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا﴾ [النمل: ١٥] أي: نحن، فالفضل من الله، وقد عبر هنا بنون العظمة لأن هذا الإيتاء عظيم جداً يليق بأن يؤتيه الله سبحانه وتعالى، ويليق بأن ينسب إليه، فنسبه إليه بنون العظمة.
ومع أن الله آتاهما الملك إلا أن العلم أعظم إذا ما قورن بالملك؛ ولأن العلم عظيم فلم يحتج هنا إلى ذكر الملك.
قال: ﴿وَقَالا﴾ [النمل: ١٥] أي: الاثنين: ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنَا عَلَى كَثِيرٍ مِنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ﴾ [النمل: ١٥].
فقد عرفا نعمة الله عز وجل وأنه صاحب الحق سبحانه، والمتفضل عليهم بالنعمة، فقال الأب والابن: الحمد لله، أي: نثني على الله الثناء الجميل الذي يليق به سبحانه وتعالى، فهو المحمود على النعم العظيمة، فالحمد كل الحمد لله الذي فضلنا على كثير، وهنا يبدو التواضع في الكلام: ﴿الَّذِي فَضَّلَنَا عَلَى كَثِيرٍ مِنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ﴾ [النمل: ١٥] ولم يكن يوجد في عصرهما من هو أفضل منهما، فقد فضلهم الله على كل من في عصرهما، ومع ذلك قالا لتواضعهما: على كثير، ولم يقولا: على كل عباده.
وموسى عليه الصلاة والسلام لما سئل: أي الناس أعلم؟ فقال: أنا أعلم، عتب عليه ربه سبحانه وتعالى، وقال: لا، بل عبدنا خضر أعلم منك؛ وداود وسليمان كانا من قوم موسى عليهما وعلى نبينا الصلاة والسلام.
قال تعالى: ﴿وَقَالا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنَا عَلَى كَثِيرٍ﴾ [النمل: ١٥]، يعني: فضلنا الله عز وجل على الكثير من خلقه، ولعل هناك من لا نعلم فمن فضله الله عز وجل علينا، فيسن للإنسان المؤمن أن يحمد الله سبحانه وتعالى، وأن يقول مثل ذلك، وخاصة إذا رأى مبتلى، فإذا رأى إنساناً مريضاً ابتلاه الله فليقل في نفسه: الحمد لله الذي عافاني مما ابتلاك به، وفضلني عليك وعلى كثير ممن خلق من عباده تفضيلاً.
والإنسان إذا ذكر نعمة الله كان جزاؤه من الله أنه يمنع عنه هذا المرض إن شاء سبحانه وتعالى.