القراءات في قوله تعالى: (فما آتاني الله)
وفي قوله تعالى: ﴿فَمَا آتَانِيَ اللَّهُ﴾ [النمل: ٣٦] ثلاث قراءات: قراءة يعقوب وحمزة: (أتمدو~نِّي بمال) بمد طويل فيها وإدغام.
وقراءة نافع وأبي جعفر وأبي عمرو وحفص أيضاً ورويس (فما آتانيَ الله خير مما آتاكم)، فإذا وقفوا فسيكون الوقف بالنون فقط.
ويقرأها أبو جعفر وورش في روايته عن نافع (فما آتان) في الوقف كما ذكرنا، والباقون يقرءون: (فما آتانِ الله خير مما آتاكم) وصلاً ووقفاً.
ثم قال تعالى: ﴿خَيْرٌ مِمَّا آتَاكُمْ﴾ [النمل: ٣٦]، أي: الذي أعطاني الله تعالى من النبوة ومن الملك خير من هذا المال الذي أتيتم به.
قال تعالى: ﴿بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ﴾ [النمل: ٣٦]، يعني: أنتم تظنون أن هذه الهدية لها قيمة عظيمة، فمثلكم يفرح بها، أما أنا فلا أفرح بمثل هذه الهدية، فقد آتاني الله عز وجل النبوة، وآتاني الملك، والمال العظيم.
والعادة في بني البشر: أن الإنسان كلما كان غنياً كلما كانت له مطامع، وازداد نهماً وحرصاً على المال، وخاصة لماذا كانت هدية عظيمة من ذهب أو فضة ونحوهما، ولكن هذا النبي الكريم عليه الصلاة والسلام قد عصمه الله من ذلك.
ولذلك جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم: (منهومان لا يشبعان: طالب علم، وطالب مال أو وطالب دنيا) فطالب العلم لا يشبع من طلب العلم، وطالب الدنيا لا يشبع من طلب المال وطلب الدنيا.
فلما رد هذه الهدية علمت أنه نبي، فهي امرأة كافرة، وهو لا يقبل هدية الكفار.
وجاء عن نبينا ﷺ مثل ذلك، أنه لم يقبل هدايا المشركين، وجاء عنه أنه قبلها.
ففي الحديث الذي رواه أبو داود ورواه الترمذي عن عياض بن حمار: (أنه أهدى للنبي ﷺ هدية، أو ناقة، فقال النبي ﷺ له: أسلمت؟ فقال: لا، قال: فإني نهيت عن زبد المشركين)، والزبد: العطاء والرفد والمنحة والهدية، فبين النبي ﷺ أنه نهي عن ذلك.
وفي حديث آخر: (أن عامر بن مالك -الذي يوصف أو يلقب بملاعب الأسنة- قدم على رسول الله ﷺ وهو مشرك، فأهدى للنبي ﷺ هدية، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إني لا أقبل هدية المشركين).
وفي حديث آخر: أن أم أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما، واسمها: قتيلة بنت عبد العزى قدمت على ابنتها أسماء بهدايا، وهي عبارة عن ضباب وأقط وسمن، وكانت أسماء مسلمة وأمها كافرة، وأم أسماء التي هي قتيلة كانت كافرة وهي غير أم عائشة رضي الله عنها التي هي أم رومان فقد كانت مسلمة، فقدمت عليها في وقت الهدنة التي بين الحديبية وبين فتح مكة بذلك، فسألت أسماء النبي صلى الله عليه وسلم: (إن أمي قدمت وهي راغبة)، يعني: راغبة في الصلة، فتوصلني وأصلها.
فالنبي ﷺ قال: (صلي أمك، وأمرها أن تقبل هدية أمها).
وبناء على ذلك اختلف العلماء في هدية المشرك: فبعض العلماء منعوا؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إني نهيت عن زبد المشركين)، ولرده ﷺ هدايا المشركين.
والبعض الآخر أجازوا؛ لأن النبي ﷺ أمر أسماء أن تقبل هدية أمها، وأيضاً قد طلب من سهيل بن عمرو أن يرسل إليه هدية من ماء زمزم.
فأرسل إليه سهيل هدية من ماء زمزم، وأرسل له هدايا معها، فقبلها منه النبي صلى الله عليه وسلم.
وبعض العلماء فصل فقال: إذا كانت هذه الهدايا كنوع من جعل الإنسان المسلم يوافقهم على ما هم فيه ويواطئهم، فتكون مداهنة، فلا تقبل هذه الهدية.
أما إذا كان قبول الهدية فيه تأليف لصاحبها، رجاء أن يسلم بعد ذلك، فيجوز عندها قبول هدية المشرك.
وقد جاء عن النبي ﷺ أنه قال: (تهادوا تحابوا) فالهدية تجلب المحبة؛ لذلك أمر المؤمنين أن يتهادوا فيما بينهم، ورفض هدية المشركين للعلة نفسها.
إذاً: إذا أهدى المشرك هدية للمسلم ووجد نوع من أنواع المودة، بحيث تنقلب المودة إلى محبة بين المسلمين والمشركين، ثم تنقلب موالاة بعد ذلك، بحيث إذا فصل القتال بين المسلمين والمشركين لا يرضى المسلم أن يقاتله؛ لأنه أهدى له هدية قبل ذلك؛ فهذا لا يجوز بحال من الأحوال؛ وذلك ولذلك رفض النبي ﷺ هدايا المشركين إلا أن يتألفهم بقبولها حتى يدخلوا في دين الله تبارك وتعالى.
ولذلك لما جاءت الهدية لسليمان، قال: ﴿فَمَا آتَانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِمَّا آتَاكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ﴾ [النمل: ٣٦]، يعني: تفرحون من أجل أن تقولوا: نحن بعثنا لسليمان هدية قوامها كذا وكذا، فتفرحون بذلك، ثم تفتخرون.