دعوة نوح على قومه
لقد عاش نوح يدعو قومه حتى جاوز الألف التي ذكرها الله عز وجل هنا في كتابه، قال تعالى: ﴿فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا﴾ [العنكبوت: ١٤] فكذبوه ولم يؤمنوا به كما قال تعالى: ﴿وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ﴾ [هود: ٤٠]، أي: لم يؤمن معه إلا العدد القليل، فكان يوصي بعضهم بعضاً، ويحذر بعضهم بعضاً من نوح على نبينا وعليه الصلاة والسلام؛ ولذلك دعا عليهم، وقال كما قال تعالى: ﴿رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا﴾ [نوح: ٢٦]، فقوله: (دياراً) وديور بمعنى واحد، والمعنى: لا تجعل عليها أحداً أبداً، والعرب تقول: لا تجعل على الأرض دياراً، ولا تجعل على الأرض ديوراً، أي: لا تجعل على الأرض أحداً، بمعنى: خذهم جميعاً واستأصل شأفتهم.
قال الله تعالى: ﴿إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا﴾ [نوح: ٢٧] أي: لا تذر أحداً يدور فوق الأرض من هؤلاء الكفار وأهلكهم جميعاً؛ لأنك إن تركتهم يضلوا عبادك، ولا يتركوا بعدهم إلا فاجراً كفاراً.
قال سبحانه هنا: ﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ﴾ [العنكبوت: ١٤] وهذا ترتيب وتعقيب: ﴿فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ﴾ [العنكبوت: ١٤] فكانت فترة زمنية طويلة، ولكنها عند الله عز وجل لا تساوي شيئاً: ﴿وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ﴾ [الحج: ٤٧]؛ لأن اليوم من أيام القيامة بالألف السنة التي عاشها نوح على نبينا وعليه الصلاة والسلام، قال الله عز وجل: ﴿فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ﴾ [العنكبوت: ١٤]، ﴿فَأَنجَيْنَاهُ﴾ [العنكبوت: ١٥] وهذا يفيد الترتيب والتعقيب، كأنها أشياء متوالية بعضها وراء بعض.
فبين أن يدعوهم إلى الله، ثم يدعو عليهم، ثم يأخذهم الطوفان بالنسبة لنا مدة طويلة، ثم إنه ما دعا عليهم إلا بعد أن يئس منهم، ولم ييأس منهم إلا عندما أخبره الله سبحانه بقوله: ﴿وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ﴾ [هود: ٣٦]، فلم يدع عليهم طوال هذه المدة حتى أخبره الله أنه لن يؤمن من قومه إلا من قد آمن، قال تعالى: ﴿وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ فَلا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ﴾ [هود: ٣٦] أي: لا تحزن عليهم.