محاجة إبراهيم لقومه
قال سبحانه وتعالى عن إبراهيم أنه قال: ﴿إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقًا﴾ [العنكبوت: ١٧]، هذه الأصنام هل سترزقكم؟ أو هل ستأتيكم بالطعام والشراب؟ كلا! فهي لا تملك لكم شيئاً، وإبراهيم قال بقوله وفعل بفعله ما يدل على الإنكار على قومه، ولذلك لما خرج القوم -قوم إبراهيم- في يوم من الأيام إلى عيد لهم جهزوا طعامهم ووضعوه أمام أصنامهم كأنهم ينتظرون من الأصنام أن تبرك هذا الطعام فتجعل فيه البركة، آملين أن يرجعوا فيأكلوا هذا الطعام، فذهب إبراهيم إلى هذه الأصنام فإذا به يجد هذا الطعام عندهم فقال: ما لكم؟ ألا تأكلون؟ كلوا من هذا الطعام الذي أمامكم، ويستفهم متعجباً لجهل قومه وما هم فيه من باطل وذهاب عقولهم، وهل هذه الأصنام تأكل أو تشرب حتى تضعوا الطعام أمامها؟! وهل هذه الأصنام تملك لنفسها شيئاً من أجل أن تبرك لكم هذا الطعام الذي أمامها؟ فإذا به يقول للأصنام ﴿مَا لَكُمْ لا تَنطِقُونَ﴾ [الصافات: ٩٢]، لماذا لا تردون ﴿فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْبًا بِالْيَمِينِ﴾ [الصافات: ٩٣]، فكسر جميع الأصنام الموجودة إلا كبيراً لهم تركه حتى يرجعوا فيتساءلوا: لماذا هؤلاء كسروا وهذا لم يكسر؟ وإذا كان لم يكسر فلماذا لم يدافع عن غيره؟ فلما رجعوا ووجدوا ذلك قالوا: ﴿مَنْ فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ﴾ [الأنبياء: ٥٩]، من صنع هذا بآلهتنا؟ والعجب أن تلك الآلهة من قبل البشر، وكأن الناس لا يفهمون ما الذي يقولونه! ﴿مَنْ فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ﴾ [الأنبياء: ٥٩]، من هذا الذي يقدر أن يظلم الإله؟ بل هم لا يعقلون ما يقولون! ﴿قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ * قَالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ﴾ [الأنبياء: ٦٠ - ٦١].
ائتوا بإبراهيم واسألوه: ﴿أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ * قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنطِقُونَ﴾ [الأنبياء: ٦٢ - ٦٣]، كل ذلك من أجل أن يتساءلوا، ولكن هيهات فقد ذهبت هذه العقول، ﴿بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنطِقُونَ﴾ [الأنبياء: ٦٣]، والمعنى كأنه يقول: مستحيل أن يصنع أحد منهم ذلك، فلا كبيرهم ولا صغيرهم يستطيع فعل شيء من ذلك، وإنما يذكر إبراهيم هذا الشيء حتى يعقلوا ويفهموا، كأنه يقول معرضاً في الكلام: إن كان هؤلاء ينطقون فقد فعله الكبير، ولكن الحقيقة أنهم لا ينطقون فكيف يصنع هذا الكبير؟! فعرض في الكلام، وهذه إحدى كذبات إبراهيم على نبينا وعليه الصلاة والسلام، فإنه لم يكذب في حياته إلا ثلاث كذبات فقط، ومن منا يعيش طول عمره لا يكذب إلا ثلاث مرات فقط؟! وإبراهيم عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام ما كذب كذباً صريحاً وإنما كان تعريضاً.
فهنا لما قال: ﴿بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنطِقُونَ﴾ [الأنبياء: ٦٣]، فكأنه علق فقال: هو الكبير هذا لو كانوا ينطقون، فإذا عقلتم أنهم لا ينطقون فستدركون أن الكبير لم يصنع، بل إن أحداً آخر صنع هذا الشيء، فليس كذباً صريحاً وإنما هو تعريض في الكلام من إبراهيم عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام.
﴿فَرَجَعُوا إِلَى أَنفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ﴾ [الأنبياء: ٦٤]، رجعوا إلى أنفسهم في المعاتبة فكانوا يعاتب بعضهم بعضاً، أما أنهم رجعوا إلى عقولهم فلا، ولكنهم رجعوا إلى أنفسهم بالعتب فقالوا: أنتم ظالمون، أين الحراس الذين يحرسون الآلهة؟! كلام الجهلاء الأغبياء الذين لا يفكرون، أي آلهة هذه التي تحتاج إلى من يحرسها؟ قال تعالى: ﴿ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُءُوسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلاءِ يَنطِقُونَ﴾ [الأنبياء: ٦٥]، ثم تواصوا فيما بينهم وتشاوروا ماذا يصنعون فيه؟ وقد ذكر لنا هنا سبحانه أنهم ﴿قَالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ﴾ [العنكبوت: ٢٤]، فهذان خياران أمامكم: إما القتل بالسيف، وإما الإحراق بالنار، ولنرجع إلى الآيات في مجادلة إبراهيم عليه الصلاة والسلام لهؤلاء.
قال عليه السلام: ﴿إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقًا﴾ [العنكبوت: ١٧]، لا يملكون أن يطعموكم ولا أن يسقوكم ﴿فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ﴾ [العنكبوت: ١٧]، ارجعوا إلى ربكم، فأنتم عندما تنزل بكم المصيبة ترفعون أيديكم وتنادون: يا رب! وهذا دأب الكفار دائماً في كل زمان، عندما تنزل بهم المصيبة يستغيثون بالله وحده لا بالآلهة، فقال لهم إبراهيم: هذا الإله العظيم الذي تدعونه عند المصائب هو الذي يملك لكم الرزق ﴿وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾ [العنكبوت: ١٧]، أنتم راجعون ليجازيكم وليحاسبكم، وهذه قراءة الجمهور، وقراءة يعقوب (إليه ترجِعون) والمعنى: أنتم ترجِعون إلى الله سبحانه وتعالى فهو وحده إليه المرجع والمآب.
﴿وَإِنْ تُكَذِّبُوا﴾ [العنكبوت: ١٨]، فتستمروا في تكذيبكم ﴿فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ﴾ [العنكبوت: ١٨]، يعني: لستم أول من كذب، ولكن هذه عادة الكفار مع أنبيائهم عليهم الصلاة والسلام، ﴿وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ﴾ [العنكبوت: ١٨]، كل رسول عليه البلاغ وليست عليه النتيجة، ولذلك يأتون يوم القيامة فيأتي النبي ومعه الرهط، ويأتي النبي ومعه القوم الكثيرون، ويأتي النبي وليس معه أحد قد دعا قومه ولم يستجب له أحد عليه الصلاة والسلام، فليس مسئولاً عن النتيجة، بل النتيجة على الله سبحانه وتعالى.
﴿وَإِنْ تُكَذِّبُوا فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ﴾ [العنكبوت: ١٨]، وهنا بيان أن وظيفة الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام هي التبيين والتوضيح، وأنهم لا يتركون شبهة من الشبهات، وهذا هو الذي عليهم فحسب ﴿الْبَلاغُ الْمُبِينُ﴾ [العنكبوت: ١٨]، أي: الواضح الذي لا غموض فيه ولا إشكال.