تفسير قوله تعالى: (ومن الناس من يعبد الله على حرف)
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
قال الله عز وجل في سورة الحج: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ * يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُ وَمَا لا يَنْفَعُهُ ذَلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ * يَدْعُوا لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ لَبِئْسَ الْمَوْلَى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ * إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ﴾ [الحج: ١١ - ١٤].
يذكر لنا الله سبحانه تبارك وتعالى في هذه الآيات وما قبلها أصنافاً من الكفار الذين يعبدون غير الله سبحانه تبارك وتعالى، فمنهم من يجادل في الله بغير علم ولا هدىً ولا كتاب منير، فهو مستكبر ثاني عطفه؛ ليضل عن سبيل الله، فأخبر الله سبحانه أن هذا الإنسان المستكبر جزاؤه أن يخزيه الله عز وجل في الدنيا، وأنه يوم القيامة يذيقه عذاب الحريق.
وكان من هؤلاء وهو سبب نزول هذه الآية: النضر بن الحارث، فأذله الله عز وجل في الدنيا وأخزاه، وقتل صبراً في يوم بدر، ويوم القيامة له عذاب الحريق، وكذلك من كان مثله من يصد عن دين الله سبحانه تبارك وتعالى، ويريد أن يظهر أنه ليس من عند الله سبحانه، وأنه ليس الحق، فهذا الرجل كان يجادل بالباطل، ويجلس إلى الناس يحدثهم بالقصص والخرافات، ويقول: هذا أحسن حديثاً مما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يزل على ذلك حتى قصمه الله سبحانه تبارك وتعالى.
وهذه صورة أخرى من صور هؤلاء الذين يدخلون في دين الله وهم على حرف: ﴿عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ﴾ [التوبة: ١٠٩] فهو لما دخل في هذا الدين، وجاءه رزق وفير، والله أنعم عليه في هذه الدنيا، فهو يقول: هذا الدين دين جيد، ويستمر عليه، فإذا أصيب بشيء من البلاء قال: هذا الدين ليس جيداً، وينصرف عن هذا الدين راجعاً إلى الشرك والعياذ بالله! ومن الناس -من هذا الصنف- من يعبد الله على حرف، يعني: دخل في الدين وهو متوجس يأخذ في التفكير: أدخل أو لا أدخل؟! أدخل وأنظر! فهو على حرف، ليس ثابتاً على هذا الدين، ولكنه متزعزع، متزلزل، متشكك، يجرب تجربة! الدين ليس محلاً للتجربة، لكنه يجرب فإذا أعجبه استمر، وإذا لم يعجبه رجع عنه، لم ينزل دين الله عز وجل بذلك، ولكن المؤمن يدخل في دين الله واثقاً في الله سبحانه تبارك وتعالى، مقتنعاً بهذا الدين، قد امتلأ قلبه بالإيمان، فهو على يقين من أن الله واحد لا شريك له، وعلى يقين من أن النبي ﷺ هو مبلغ عن رب العالمين سبحانه، وعلى يقين من أن هذه الشريعة هي منهج الحياة، وأن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه، وهو على يقين بأنه سيحاسب يوم القيامة على عمله.
أما هذا المتزلزل المتزعزع -الذي هو على حرف- فإن وجد خيراً استمر، وإن وجد ضيراً انقلب على عقبيه، هذه صورته.
يقول الله عز وجل: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ﴾ [الحج: ١١]، ومعنى (حرف) أي: على وجه واحد، أو على آخر الشيء مثل حرف المكان أي: آخره، والواقف على الحرف: إما أنه يبعد ويقع، وإما أنه يستمر على ما هو فيه، فهذا على تشكك في عقيدته، ومتزلزل في إيمانه.
﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ﴾ [الحج: ١١] قال ابن عباس: يريد شيبة بن ربيعة وكان قد أسلم قبل أن يظهر رسول الله صلى الله عليه وسلم، والظهور هنا بمعنى: الغلبة، فكان في مكة والنبي ﷺ ومن معه من المؤمنين قلة، ولم يكن لهم دور، دخل الإسلام مع النبي صلى الله عليه وسلم، فلما أوحي إلى النبي ﷺ بما جاء من شريعة، فإذا بهذا الرجل يرجع ولا يريد ذلك.
وقيل: إنه رجل من اليهود دخل في الدين وبايع النبي ﷺ على الإسلام، فلما أسلم ابتلاه الله عز وجل، فذهب بصره وماله، يعني: عمي الرجل وذهب ماله، فتشاءم بالإسلام، فذهب إلى النبي ﷺ وقال: أقلني، فقال له: (إن الإسلام لا يقال)، والإقالة أن يبيع الإنسان بيعة ثم يرجع في كلامه، فظن أنه هكذا في الإسلام، فقال: إني رجعت في كلامي لا أريد، فقال له: (إن الإسلام لا يقال، فقال: إني لم أصب في ديني هذا خيراً، ذهب بصري ومالي وولدي، فقال له: يا يهودي! إن الإسلام يسبك الرجال، كما تسبك النار خبث الحديد) فنزلت هذه الآية، والحديث في إسناده ضعف، ولكنه من ضمن الصور التي فيها أن البعض كان يسلم، ويبتليه الله سبحانه تبارك وتعالى سواء كان هذا اليهودي أو غيره فيرتد عن الإسلام.
كذلك جاء عن ابن عباس في تفسير هذه الآية أنه قال: (كان الرجل يقدم المدينة، فإذا ولدت امرأته غلاماً ونتجت خيله، قال: هذا دين صالح)، فهو يدخل في الدين تجربة.
فالدين لا يصلح فيه هذا الشيء، فإما أن يثبت هذا الشخص، وإما أن يكون مزعزعاً فلا يصلح في هذا الدين، ولا يتسمى بمسمى الإسلام إلا أن يكون على شهادة أن لا إله إلا الله مستيقناً بها قلبه.
فكان الرجل من هؤلاء الأعراب يدخل في هذا الدين ليجرب وينظر، فإذا حملت زوجته وأتت بولد كان هذا الدين جيداً، وإذا نتجت الخيل وكثرت كان ديناً جيداً، وإلا فإنه يرجع عن هذا الدين ويقول: إن هذا دين سوء، ولذلك الله أخبر عن هؤلاء الأعراب فقال: ﴿الأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ﴾ [التوبة: ٩٧] فإذا كانوا يدخلون الدين من أجل أن يجربوه فهؤلاء أشد كفراً ونفاقاً، فليس في قلوبهم من الإيمان شيء إلا التسمية بأنه مسلم فقط، لكن الحقيقة أنه ليس في قلوبهم إسلام، ولذلك أخبر الله عز وجل عنهم: ﴿قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا﴾ [الحجرات: ١٤]، إسلام باللسان فقط، لا يوجد إيمان: ﴿وَلَمَّا يَدْخُلِ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ﴾ [الحجرات: ١٤]، الإيمان إذا دخل القلب وانفتح انشرح صدر الإنسان بهذا الإسلام، ويكون في سبيل دين الله عز وجل مستعداً أن يترك ماله وولده، ويترك كل شيء ابتغاء مرضاة الله عز وجل، أما الذي يريد الدنيا والآخرة، فيبتغي في الدنيا المال والولد، ويريد زهرة الدنيا مع الآخرة، فهذا لا يكون، أين التضحية؟! وعلى أي شيء سيدخل الجنة؟ لا بد أن الإنسان يبذل في الدنيا ويصبر فيها، يقول الله سبحانه: ﴿وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ﴾ [فصلت: ٣٥].
فالإنسان يظفر بالجنة ويدخلها بالصبر على المكاره، وبقوله: إنا لله وإنا إليه راجعون، فهؤلاء هم الذين يعلمون أن مصيرهم إلى الله عز وجل، وأن الله سيحاسبهم يوم القيامة، فيبتغون رضا الله سبحانه.
أما الإنسان الذي يريد الخير في الدنيا والآخرة، فلا يمكن، قال الله سبحانه: ﴿أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ﴾ [العنكبوت: ٢] تريد أن تقول: أنا مؤمن من غير أن تصاب بشيء في الدنيا لا في المال ولا في الولد ولا في النفس؟! لا يصلح الإسلام إلا بشيء من البلاء.
قال الله تبارك وتعالى: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ﴾ [الحج: ١١] (حرف الشيء) طرفه وشفيره وحده، والمعنى: يعبدون الله على وجه واحد وهو السراء، ولا يريدون ضراء.
ولو عبدوا الله على الشكر في السراء، والصبر في الضراء، لما عبدوا الله على حرف، فالإنسان في وقت السراء يشكر الله ويحمده سبحانه، ووقت الضراء يصبر وينتظر الفرج من الله سبحانه، فهذا هو الذي يعبد الله على حق.


الصفحة التالية
Icon