بين يدي سورة الروم
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك على عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
قال الله عز وجل في سورة الروم: بسم الله الرحمن الرحيم، ﴿الم * غُلِبَتِ الرُّومُ * فِي أَدْنَى الأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ * فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ﴾ [الروم: ١ - ٤].
هذه السورة الثلاثون من كتاب الله سبحانه وتعالى، وهي سورة الروم، وسميت بسورة الروم؛ لأنه بدأ بذكر الروم فيها، قال تعالى: ﴿غُلِبَتِ الرُّومُ﴾، ثم ذكر أنهم سيغلبون بعد بضع سنين.
سورة الروم من السور المكية، وهي سورة عجيبة وفيها معجزة للنبي صلوات الله وسلامه عليه، بل معجزات في هذه السورة العظيمة، وهي تحتوي على خصائص السور المكية من ذكر نبوءة النبي صلوات الله وسلامه عليه، وذكر توحيد الله سبحانه، وذكر من عبدوا غير الله سبحانه وتعالى، وفيها ذكر نعم الله سبحانه وتعالى على العباد، وفيها مقتضى ربوبيته سبحانه وتعالى، وكيف أنه إذا أعطى العباد رحمة من عنده سبحانه إذا بالعباد يفرحون، وقد يصل بهم فرحهم إلى الفخر، وإلى الغرور والاستكبار، وإذا أذاقهم شيئاً من الضر إذا بهم يقنطون، فالإنسان عجيب في تقلبه بين حالة الفرح الشديد الذي يدعو إلى الزهو والخيلاء والاستكبار، فيبتعد عن عبادة الله سبحانه، وبين أن يقنط إذا جاءه شيء مما يسوءه.
ويذكر الله عز وجل في هذه السورة رزق الله سبحانه، وأنه هو الذي بيده الرزق، وأنه يقبض ويبسط سبحانه وتعالى، وفيها الحث على إيتاء ذي القربى حقوقهم واليتامى والمساكين وغير ذلك.
وفيها إشارة إلى تحريم الربا، فقال الله سبحانه تبارك وتعالى: ﴿وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلا يَرْبُوا عِنْدَ اللَّهِ وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ﴾ [الروم: ٣٩].
كذلك فيها بيان ربوبية رب العالمين سبحانه، وأنه الرب الذي يخلق، والذي يرزق سبحانه تبارك وتعالى، والذي يحيي، والذي يميت، والذي يبعث عباده سبحانه، قال: ﴿اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذَلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ﴾ [الروم: ٤٠]، هل هناك شريك آخر يفعل مثل الذي يفعله الله سبحانه؟ حاشا لله سبحانه، ﴿سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ﴾ [الروم: ٤٠].
كذلك يخبر سبحانه عن سبب استحقاق العباد لعقوبة رب العالمين سبحانه وتعالى، أنهم إذا كسبوا بأيديهم المفاسد ظهر الفساد فعم الجميع، واستحقوا عقوبة الله، قال تعالى: ﴿ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا﴾ [الروم: ٤١]، فإذا اكتسب الناس السيئات استحقوا أن يعمهم الفساد ويأتيهم من عند ربهم العذاب، وفيها أيضاً الأمر بالتوجه إلى عبادة رب العالمين سبحانه، قال تعالى: ﴿فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا﴾ [الروم: ٣٠]، وقال تعالى: ﴿فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ﴾ [الروم: ٤٣].
وفيها الإشارة إلى اليوم الآخر، وأن الله سبحانه وتعالى يفصل بين العباد في هذا اليوم، قال تعالى: ﴿لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ﴾ [الروم: ٤٥].
وفيها ذكر إرسال الرسل، قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلًا إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاءُوهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَانتَقَمْنَا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ﴾ [الروم: ٤٧]، ففيها الوعد من الله سبحانه للمؤمنين بأن الله ينصرهم سبحانه، وأنهم مهما كانوا ضعفاء فلا بد أن يأتي عليهم وقت ينصرهم الله سبحانه، كما أن الأرض تكون ميتة، فينزل الله عليها الغيث فيحييها بعد ما يئس أهلها من ذلك، ولذلك يقول الله سبحانه: ﴿اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَاءِ كَيْفَ يَشَاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ﴾ [الروم: ٤٨]، ثم قال: ﴿فَانظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَةِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا﴾ [الروم: ٥٠]، فإذا أحيا الأرض بعدما كنتم تتوقعون أن لا حياة بها، وأنها لا تحيا، فكذلك قد يأتي على المسلمين زمن فيه شدة، وفيه تعذيب، وفيه ضيق، فإذا بالله ينزل رحمته، كما ينزل الغيث على الأرض فيحييكم، ويردكم قاهرين غالبين بعدما كنتم مهزومين مغلوبين.
كذلك أشار الله عز وجل في هذه السورة إلى ضعف الإنسان ومراحل عمره، فقال: ﴿اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ﴾ [الروم: ٥٤]، سبحانه وتعالى ﴿وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ﴾ [الروم: ٥٤].
كذلك أشار إلى ما يكون يوم القيامة من وقوف المجرمين بين يدي رب العالمين سبحانه، قال تعالى: ﴿وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ كَذَلِكَ كَانُوا يُؤْفَكُونَ﴾ [الروم: ٥٥]، ثم ذكر الله سبحانه أنه في يوم القيامة لا ينفع الظالمين اعتذارهم ولا عتبهم.
كذلك يخبر الله سبحانه أنه في هذا القرآن العظيم ضرب الأمثلة للناس لعلهم يتذكرون بهذه الأمثلة، ولكن من طبع الله على قلبه لا يفيق ولا يرجع ولا يتذكر.
ثم أمر نبيه صلوات الله وسلامه عليه بالصبر على ما هو فيه هو والمؤمنين، قال: ﴿فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ﴾ [الروم: ٦٠].
فهذه العبر الموجودة في هذه السورة تبين لنا أن هذه السورة فيها تصبير للنبي ﷺ وللمؤمنين على ما هم فيه من أذى هؤلاء الكفار، والسورة ستون آية، والبعض يعدها تسعة وخمسين آية؛ والخلاف في العد كما ذكرنا قبل ذلك مبني على معرفة وقف النبي صلى الله عليه وسلم، وأين وقف صلى الله عليه وسلم؟ فبحسب قراءته ﷺ ووقفه يعدون رأس الآية، فيقولون: هذه الآية الأولى، هذه الثانية، هذه الثالثة، ولذلك لا يوجد خلاف إلا في مواطن، فالبعض عدها آية، وجعل الوقف عليها رأس آية، والبعض لم يعدها، والخلاف في العد في خمس مواطن في هذه السورة.
في الموطن الأول: ﴿الم﴾ [الروم: ١]، هذه عدها البعض آية، والبعض عدها تابعة للآية التي تليها، فممن عدها آية: الكوفيون، فيقرءون: ﴿الم﴾ [الروم: ١]، ويقفون، على أنها رأس آية، ﴿غُلِبَتِ الرُّومُ﴾ [الروم: ٢]، وغيرهم يقرءون: ﴿الم * غُلِبَتِ الرُّومُ﴾ [الروم: ١ - ٢]، على أن الآيتين آية واحدة، فهذا من الخلاف فيها.
كذلك في قوله سبحانه: ﴿غُلِبَتِ الرُّومُ﴾ [الروم: ٢]، البعض عد الوقف عندها آية، والبعض الآخر يعدها تابعة لما قبلها.
كذلك في قوله: ﴿فِي بِضْعِ سِنِينَ﴾ [الروم: ٤]، عند المدني الآخر وكذلك عند الكوفيين أنها ليست آية، ولكنها وقف، وعند غيرهم أنها آية، فيقفون عليها: ﴿فِي بِضْعِ سِنِينَ﴾ [الروم: ٤].
كذلك قوله سبحانه: ﴿وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ﴾ [الروم: ٣]، عدها الكوفيون آية، وغيرهم يعدونها أنها ليست آية وهي مما بعدها.
كذلك قوله سبحانه: ﴿يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ﴾ [الروم: ٥٥]، البعض يعد هنا الوقف على أنها آية، والبعض لا يعدها آية، والغرض أن الوقف الذي وقفه النبي ﷺ في أماكن فبناء على سماعهم من النبي ﷺ ووقفه البعض عد هذه آية، والبعض عدها أنها آية مع الذي يليها.


الصفحة التالية
Icon