آثار التفكير الفردي ومزاياه
الله عندما يأمر بالتفكير يأمر به مثنى وفرادى، فإذا أمر بالشورى أمرهم جماعات فقال: ﴿وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ﴾ [الشورى: ٣٨].
أما عند الأمر بالتفكير فيقول سبحانه: ﴿قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ﴾ [سبأ: ٤٦]، وفي الآية أمرهم أن يتفكروا في أمر النبي صلى الله عليه وسلم، هل هو مجنون؟ فلو جلس مجموعة من الكفار ليتفكروا في ذلك لربما يطلع عليهم أبو جهل فيقول: هذا مجنون، ويحلف لهم على ذلك، وهم يخافون أن يكذبوا ساداتهم، فيقرون له أن محمداً مجنون، ويقولون كما يقول، وبذلك عُلِم عدم جدوى هذا النوع من التفكير، وأن التفكير الصحيح أن تجلس وحدك ثم تسائل نفسك: لم يقول فلان عليه أنه مجنون؟ أليس من الممكن أن يكون فلاناً في نفسه شيء من هذا النبي صلى الله عليه وسلم؟ وهكذا وحينما يفعل الإنسان ذلك فيتفكر في نفسه يصل في النهاية أنه عليه الصلاة والسلام إنسان عاقل وأنه رسول من عند رب العالمين، ولذلك كان كفار قريش عندما يأتي رجل من خارج مكة يجتمعون إليه، ويقولون له: احذر كذاب قريش، ويظلون يوعزون صدره على النبي الكريم وينصحونه بزعمهم، إلى أن يسد أذنيه بشيء يمنعه من أن يسمع النبي ﷺ حتى يصل إليه، فإن كان عاقلاً لبيباً سمع فآمن وإلا فلا.
ويقول بعضهم: إني جئت النبي ﷺ وقد أقسمت عدد أصابع يدي: أني لا أسمع من النبي صلى الله عليه وسلم، ولكن الله يشاء له الإيمان فيتفكر ويسائل نفسه: لم حلفت أني لا أسمعه؟ أفلا نسمعه ثم ننظر ما سيقول؟! فيرفع أصابعه من آذانه، ويكف عن القسم الذي حلفه، ويذهب للنبي ﷺ لينظر، فيجد ما يقوله صحيحاً، ويعلم أن كلامه هو ما يؤيده العقل ويؤمن بالنبي صلى الله عليه وسلم، وما صنعه هو التفكر الذي أمر الله عز وجل به، ومن الغباء أن تجعل غيرك يسخر منك بالأفكار التي يمليها عليك، بل لا بد أن تفكر مع نفسك: لم تقول هذا الشيء؟ لم تعاد هذا النبي صلى الله عليه وسلم؟ لم تكذب هذا القرآن؟ وقد كان الوليد بن المغيرة يتفكر في القرآن ويسمع النبي ﷺ وهو يتلوه، فما كان منه إلا أن يقول: والله إن له لحلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإن أعلاه لمثمر، وإن أسفله لمغدق - أي: مكتسي من فوقه ومن تحته بالخيرات - وما هو بقول بشر.
وبعد ذلك يعايره قومه ويقولون له: ضحك عليك النبي صلى الله عليه وسلم.
وهو لا يستطيع أن يرد إذ القرآن كلام جميل.
وما يزالون به يقولون له: سحرك محمد صلى الله عليه وسلم، قل في القرآن شيئاً، فينتكس ويجيبهم إلى قولهم.
ويخبرنا الله عن هذا الإنسان فيقول: ﴿ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا * وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَمْدُودًا * وَبَنِينَ شُهُودًا * وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيدًا﴾ [المدثر: ١١ - ١٤] وبعد كل الذي أعطيته يطلب المزيد: ﴿ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ * كَلَّا إِنَّهُ كَانَ لِآيَاتِنَا عَنِيدًا﴾ [المدثر: ١٥ - ١٦] أي: معانداً مع معرفته بالحق، فقد عرف أنه الحق من عند رب العالمين، ثم جحده استحياءً من قومه أن يقولوا: سحرك محمد صلى الله عليه وسلم، أو أغراك فقال لك: سأعطيك مالاً أو ضحك عليك النبي صلى الله عليه وسلم، ثم يخبر الله سبحانه عن تفكيره فيقول: ﴿إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ * فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ﴾ [المدثر: ١٨ - ١٩] أي: لعنه الله في تفكيره وتقديره الذي قاله، فقد قال قولاً ذميماً بعد أن هدده قومه أن يفضحوه قال سبحانه مخبراً عنه: ﴿إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ * فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ * ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ * ثُمَّ نَظَرَ * ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ * ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ * فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ﴾ [المدثر: ١٨ - ٢٤].
وكان قد أقر بعد سماعه أن هذا ليس بقول البشر، فلما جاء الكفار إليه وقالوا له: ما الذي تقوله؟ أوقد تبعت محمداً وأصحابه؟ إنك بفعلك هذا ستجعل الناس يسخرون منا، فاستمالوه فقال: سنقول عنه: ساحر يسحر الناس بهذا الذي يقوله.
ومن قصته رأينا كيف أنه تغير وتحول بعدما فكر في نفسه في البداية وقال: هذا الكلام ليس من قول البشر، والوليد بن المغيرة لم يكن رجلاً عادياً بل هو من سادة قريش وكبرائها، ولتعلم منزلته في قومه نسوق هذا الحدث لما دخل عمر بن الخطاب في الإسلام، فقد أتت إليه قريش جميعها تريد أن تضرب عمر رضي الله عنه وتقتله، فذهبوا إليه كالبحر كلهم يريد بيت عمر حتى إن عمر فزع من ذلك، وابن عمر واقف فوق سطح البيت ينظر أمواجاً من البشر التي جاءت تريد عمر، لكن الوليد بن المغيرة وحده رد هؤلاء جميعهم، وقال: أنا على دينه ارجعوا، فرجعوا كلهم وتركوا عمر بن الخطاب رضي الله عنه، والوليد بن المغيرة لم يكن على دينه حقيقة ولكن كأنه يقول: أنا أجيره فلا يقربه أحد.
فـ الوليد حين يتفكر لوحده يعرف أن هذا القرآن حق من عند رب العالمين، فيقول: ما هو بقول بشر، وبعد أن يجتمع عليه قومه ويعيروه يخاف ويرجع عن قول الحق بل يقول عن القرآن: إن هذا إلا سحر يؤثر! لذلك الله عز وجل يقول للإنسان: تفكر في نفسك، ولا تجعل فكر غيرك يطغي عليك، فقد وهبتك عقلاً لتفكر فيه قال تعالى: ﴿أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنفُسِهِمْ مَا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى﴾ [الروم: ٨] أي: أنهم إذا تفكروا علموا أن هذه السماوات لم تخلق سدى وعبثاً، وأن هذه الأرض لم تخلق عبثاً، وأن هذه الآيات التي يراها الإنسان الشمس والقمر والنجوم والكواكب والجبال والبحار والأمواج والأسماك والحيتان فيها والطيور في السماء، لم يخلقها الله عبثاً، وبذلك يعلم الإنسان أن الله لم يخلق هذا كله عبثاً سبحانه تبارك وتعالى، بل خلقه لحكمة وغاية قال سبحانه: ﴿مَا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ﴾ [الروم: ٨] أي: خلقها متلبسة بالحق، فخلقها بعدله وبحكمته وبحقه سبحانه تبارك وتعالى قال: ﴿إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى﴾ [الروم: ٨] أي أن كل شيء مخلوق بأجل ولأجل مسمىً عند الله، فقد حدد وجوده وفناءه وبعثه يوم القيامة، فكل شيء موجود ليس بالتعمير في الدنيا إلى الأبد، ولكن إلى أجل مسمى ﴿فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ﴾ [النحل: ٦١] ولكن الكثيرين من الناس يكفرون بذلك، قال سبحانه: ﴿وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ لَكَافِرُونَ﴾ [الروم: ٨] أي: بهذا الأجل المسمى وبالرجوع إلى الله لكافرون أما المؤمنون فهم وإن عاشوا في الدنيا وعمروا فيها فهم يعرفون أنهم راجعون إلى الله، فيعملون لله بالصدق وبالإخلاص وبالعلم وباليقين.


الصفحة التالية
Icon