تفسير قوله تعالى: (أولم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم)
قال الله تعالى: ﴿أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا الأَرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ﴾ [الروم: ٩] يعني: هؤلاء الكفار الذين يتنطعون ويتعنتون، ويتطاولون على ربهم، ويكذبون رسل ربهم عليهم الصلاة والسلام، هلا ساروا في الأرض فنظروا فيها؟ انظروا كيف بدأ الله الخلق؟! وكيف ينشئه؟! وكيف يعيده سبحانه وتعالى؟! وكيف فعل بالسابقين؟! وكيف كان عاقبة الذين من قبلهم ونهايتهم؟! عاقبة الشيء ونهايته هي النتيجة التي من ورائه، انظروا كيف عاقب الله سبحانه قوم نوح وعاد وثمود وقوم لوط وأصحاب الأيكة قوم مدين، وغيرهم كثيرين ممن خلق الله سبحانه، فمنهم من قص علينا قصصهم، ومنهم من لم يذكرهم لنا، فلو أن الإنسان سار في الأرض فلينظر نظرة اعتبار لا نظرة تفسح وتمشية، بل يعتبرون مما حصل للأقوام السابقين، وما الذي صنعوه، وكيف أنهم علوا في الأرض، ففرعون كان قومه يبجلونه ويرفعون شأنه، ويعبدونه من دون الله سبحانه، والآن إذا ذكرناه قلنا: هذا المجنون الذي كان اسمه فرعون، هذا الإنسان الغبي الذي ظن نفسه إلهاً مع الله سبحانه وتعالى، هذا الذي خدع الناس وقال: أنا ابن الشمس، هذا المغفل الأحمق.
فقومه الذين كانوا معه لا يجرؤون أن يقولوا ذلك له، بل كان يستخفهم فيطيعونه، فنقول: كانوا خفاف العقول، كانوا يطيعونه وهم يعرفون أنه كذاب، وأنهم كذابون في عبادتهم له، فلو أن الناس تفكروا واعتبروا بهؤلاء الذين خافوا من فرعون فعبدوه من دون الله سبحانه، كيف انتهى أمر فرعون وقومه، وصاروا عبرة للناس، وهلا اعتبرتم بهؤلاء؟! كيف فعل الله عز وجل بهم، ففرعون أغرقه الله سبحانه، وهو الذي قال: ﴿أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى﴾ [النازعات: ٢٤]، وهو الذي قال: ﴿مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي﴾ [القصص: ٣٨]، وحين أغرقه الله قال: ﴿آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ﴾ [يونس: ٩٠].
قال تعالى: ((أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ)) أي: نهاية ونتيجة سوء عملهم، ﴿كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً﴾ [الروم: ٩] يعني: كانت أبدانهم قوية، وكانوا طوالاً في قامتهم، وكانوا عراضاً في أبدانهم، وكانوا ذوي عضلات وقوة، وآثارهم تدل على ذلك، انظر إلى الذين بنوا الأهرام يا ترى كيف كانت أجسامهم؟ وكيف كانت قوتهم؟ لعلهم (أوناش) ولعلهم (روافع)، لقد أعطاهم الله عز وجل قوة بدنية، فرفعوا وبنوا وصارت آثارهم تدل على ما أعطاهم الله سبحانه من قوة ومن علوم، لكن هل انتفعوا بما أعطاهم الله من قوة؟ لا، بل تمردوا وعتوا وعلوا في الأرض واستكبروا، فالله سبحانه وتعالى يقول: ((كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا الأَرْضَ)) أي: أنهم كانوا يقلبون الأرض بالحرث، فكانوا يزرعون ويبذرون ويحصدون، وكانوا أقوياء يفعلون ذلك.
قوله: ﴿وَعَمَرُوهَا﴾ [الروم: ٩] أي: أقاموا فيها أعماراً طويلة، فهم عمروا حتى قيل: لن يزولوا، أين ذهب هؤلاء؟ انتهى أمرهم، حين يتكلم عنهم الإنسان يقول: قوم في الماضي السحيق، هل كانوا يظنون أن يصيروا ماضياً يتندر بهم ويتكلم الناس عنهم؟! لقد أقاموا عمراً طويلاً، فظنوا أنهم لن يبيدوا أبداً، أو قوله سبحانه: ((وَأَثَارُوا الأَرْضَ وَعَمَرُوهَا)) أي: عمروها بالسكنى وعمروها بالزراعة والفلاحة، وعمروها بالصناعة، وعمروها بغير ذلك.
قوله: ((أكثر مما عمروها)) يعني: الذين من بعدهم، وأعمار العباد تتناقص، ففي عهد نوح عاش نوح ألف سنة إلا خمسين عاماً عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام في الدعوة، أما الآن فلا أحد يعيش هذا العمر، فأعمار أمة النبي ﷺ قصيرة، من الستين إلى السبعين، والقليل من يجوزون ذلك، لكن السابقون عمروا، كان الواحد يعيش مائتين سنة ويظن أن عمره طويل، ولكن ليس بطويل جداً، الآن لا أحد يعيش هذه المدة، والآن يقولون: المعمر الذي يعيش في البلد الفلاني مائة وخمس عشرة سنة، أو عاش مائة وسبع عشرة سنة فنحن نقول: هذا معمر فكيف به إذا عاش ثلاثمائة سنة أو أربعمائة سنة، يكون ماذا؟ السابقون عاشوا هذه السنين وأكثر.
فالله عز وجل يقول: ((وعمروها)) أي: عمروا الأرض وسكنوا فوقها، وامتدت أعمارهم، لكن مهما طال عمر الإنسان فلا بد في النهاية أن يرجع إلى الله عز وجل ليحاسبه سبحانه.
قال: ((وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ)) أي: بالآيات البينات من عند الله، هذه الآيات التي تبين نفسها وتفصح عن نفسها، أو جاءتهم معجزات من عند رب العالمين سبحانه، وقراءة الجمهور: ((وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ))، وقراءة أبي عمرو (وجاءتهم رسْلهم بالبينات) بسكون السين فيها.
قوله تعالى: ﴿فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ﴾ [الروم: ٩] كأن هنا فيه شيء مقدر محذوف، والمعنى: أنهم لما جاءتهم رسلهم بالبينات فكذبوا ولم يعتبروا ولم يتعظوا فأهلكهم الله، ولم يظلمهم الله سبحانه بإهلاكهم، قال: ((فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ)) وقال: ﴿وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا﴾ [الكهف: ٤٩].
والله عز وجل قد حرم الظلم على نفسه قال: (إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرماً فلا تظالموا)، فمستحيل أن الله عز وجل يحكم بغير العدل، فحكمه العدل، وقوله الحق سبحانه، ((فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ)) أي: ظلموا أنفسهم بشركهم وبعصيانهم وبتمردهم على ربهم سبحانه، وباستكبارهم على رسل ربهم عليهم الصلاة والسلام، فاستحقوا عقوبة رب العالمين سبحانه التي ذكرها في كتابه.