تفسير قوله تعالى: (ضرب لكم مثلاً من أنفسكم)
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
قال الله عز وجل في سورة الروم: ﴿ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلًا مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ شُرَكَاءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَوَاءٌ تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنفُسَكُمْ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ﴾ [الروم: ٢٨].
ذكر الله سبحانه وتعالى لنا في هذه السورة سورة الروم مثلاً من أنفسنا فضربه للعباد، ولله عز وجل المثل الأعلى، والقرآن يضرب الأمثال تقريباً للمعلومات في الذهن، فالله سبحانه يقرب الشيء الذي يريد الإنسان أن يفهمه، عن طريق ضرب الأمثال، وعن طريق التبيين والتوضيح والتفصيل، وعن طريق التكرار للمعنى بصور مختلفة، حتى يفهم الإنسان، ويعقل عن الله سبحانه وتعالى ما الذي يريده منه، ويقيم الله سبحانه وتعالى الحجة على العباد بذلك، ولا يستحي ربنا سبحانه أن يضرب لنا الأمثال بأقل الأشياء أو بأعلى الأشياء، قال سبحانه: ﴿إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا﴾ [البقرة: ٢٦] فيضرب لنا المثل بالبعوضة وبالذبابة وبالشيء الكبير، ويضرب لنا المثل في أنفسنا ومن أنفسنا، وقال لنا: ﴿وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ﴾ [الذاريات: ٢١] فهنا في أنفسنا عبرة نعتبر بها، فاعتبروا يا أولي الأبصار.
قال تعالى: ((ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلًا مِنْ أَنْفُسِكُمْ)) حتى تعرفوا أنكم أنتم البشر يأنف أحدكم ويرفض أن يكون من هو أقل منه شريكاً له، فالإنسان الذي له متجر وله محل وعنده عامل أجير يعمل في هذا المحل يأنف صاحب المحل أن يكون هذا الأجير شريكه في المحل، هذا في الأجير الذي هو حر فكيف لو كان هذا عبداً تملكه وقد اشتريته بمالك؟! لا ترضى أبداً أن يقال: هذا العبد شريك لك في مالك، تأنف وترفض ذلك، وتقول: كيف يكون شريكاً لي وأنا اشتريته بمالي وهو ملك لي، ومن حقي أن أبيعه؟! ترفض ذلك، فالله عز وجل ضرب لنا هذا المثال: ﴿هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ﴾ [الروم: ٢٨] أي: من العبيد الذين هم عندكم، ﴿مِنْ شُرَكَاءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَوَاءٌ﴾ [الروم: ٢٨] أي: العباد كلهم سواء، السيد الغني والعبد الذي لا يملك شيئاً والحر الفقير، الكل سواء في رزق الله سبحانه لا يرزقون أنفسهم، بل الله عز وجل هو الذي يرزق الجميع، فإذا كان الرزق ليس رزقك وليس مالك ولم تخلقه ولم تأت به، ولكن الله بكرمه أعطاك هذا المال الذي جعلت خليفة ومستخلفاً عليه، ومع ذلك ترفض أن يقال: هذا شريك لك في هذا المال، مع أنكم جميعاً سواء في رزق الله؛ لأن الله يرزقكم أنتم ومن تملكون؛ فكيف تدعون لله سبحانه أن يكون له شريك في ملكه سبحانه وهو الذي خلق العباد وخلق كل شيء سبحانه وتعالى؟! قال الله سبحانه: ﴿فَأَنْتُمْ فِيهِ سَوَاءٌ تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنفُسَكُمْ﴾ [الروم: ٢٨] أي: تخافون من عبيدكم هؤلاء كما تخافون من أنفسكم، تخافون أن ينقصوا عليكم الرزق، فأنت خائف على هذا الرزق الذي أعطاك الله سبحانه وتعالى.
فأنت تخاف من هذا العبد أن ينفد هذا المال الذي في يدك، وترفض أن يكون عبدك شريكاً لك، فكيف تضرب لله عز وجل الأمثال؟ وكيف تزعم أن له الصاحبة والولد وله الند والشريك وهو الذي خلقكم وخلق أموالكم ولا يخاف شيئاً ولا يخشى أحداً سبحانه وتعالى؟ قال: ﴿كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ﴾ [الروم: ٢٨] أي: كهذا التفصيل العظيم نفصل الآيات لقوم يعقلون، وتفصيل الشيء يكون بتكراره وتوضيحه وتبيينه، فكذلك فصلناه وبيناه بياناً يعقله كل ذي عقل وكل ذي بصيرة.