تفسير قوله تعالى: (الذي أحسن كل شيء خلقه)
قال الله تعالى: ﴿الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الإِنسَانِ مِنْ طِينٍ﴾ [السجدة: ٧] كل خلق الله حسن، وكل خلق الله يليق بما خلقه الله عز وجل له، فخلق الإنسان وسواه فعدله، وجعله يمشي على رجلين منتصباً قائماً، وجعل الإنسان على هيئة معينة تليق بهذا الإنسان الذي كرمه الله سبحانه تبارك وتعالى، وخلق الحيوان على هيئة معينة تليق بهذا الحيوان، وخلق الطير والدواب والحشرات وكل مخلوق من خلقه سبحانه خلقهم فأحسن خلقته سبحانه على ما يليق بهذا المخلوق.
﴿الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ﴾ إذا رأى الإنسان شيئاً قبيحاً فيقال له: هذا وإن كان قبيحاً هل تقدر أن تخلق مثله؟! الله عز وجل له في كل شيء آية، فيخلق الخير والشر سبحانه، ويخلق الشيء الدميم والقبيح، لولا وجود القبيح ما علم الإنسان قيمة الجمال، فلو كل شيء جميل في نظرك ما عرفت قيمة هذا الشيء الجميل إلا بأن يخلق الله عز وجل ضده، ولا عرفت قيمة الصحة التي أنت فيها إلا أن يخلق الله عز وجل المرض، ولا عرفت قيمة البياض وجماله إلا أن يخلق الله عز وجل السواد، فتقارن بين هذا وذاك، ولذلك يقولون: والضد يظهر حسنه الضد (وبضدها تتميز الأشياء)، فالشيء لا يتميز عن غيره إلا بالضد الذي يوجد، فيعرف الإنسان قيمة هذا وقيمة هذا.
الله سبحانه تبارك وتعالى قد خلق هذا كله فأتقن كل شيء خلقه وأحكمه وأحسن فيه، فكل خلق الله سبحانه بإضافته إلى الله فهو حسن، وكل خلق الله عز وجل بإضافته إلى الله فهو خير من الله سبحانه تبارك وتعالى، وإن كان في الدنيا هذا خير وهذا شر، الكافر هذا شر، ولكن الله عز وجل خلقه لخير يعلمه سبحانه تبارك وتعالى، يخلق هذا الكافر ليبتلي به المؤمن ويرتفع في درجات الجنة، وإلا فكيف سيبتلى إن لم يوجد هذا الكافر ليؤذي المؤمن وليجاهده ويكتسب الثواب والحسنات والدرجات عند الله؟! فيكون الله عز وجل هو الذي خلق هذا وخلق هذا، فهذا خير من هذا.
قوله: ((الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ)) هذه قراءة الكوفيين، وقراءة نافع أيضاً، وهذا فعل، وقراءة بقية القراء ((الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ)) ف (خَلَقَهُ) فعل، و (خَلْقَهُ) مصدر، وكأن المعنى على الأول: الذي أحسن كل ما خلقه عز وجل، فقد أحسنه أي: أتقنه وأحكم في صنع هذا الشيء الذي أوجده سبحانه وتعالى.
إذاً: أحسن كل شيء في الخلق والإيجاد من العدم، فكل شيء أوجده الله سبحانه تبارك وتعالى فقد أحسن في إيجاده، وقد ينظر الإنسان في الشيء ويقول: لماذا هذا الشيء خلقه الله عز وجل هكذا؟! وهو لا يدري أن هذا فيه نفع للإنسان من حيث يدري ومن حيث لا يدري، فكل مخلوق في هذا الكون إنما هو مخلوق لحكمة من الله سبحانه تبارك وتعالى، حتى إن بعض علماء الحشرات من أكابر العلماء يقولون: لولا وجود العنكبوت لفني الإنسان ومات! فوجود هذا العنكبوت يعمل توازناً في البيئة التي هو موجود فيها هذا الإنسان، فهو لا يدري إلا فيما يشاهده أمامه هذا عنكبوت يؤذيني ويضايقني ويعمل كذا ولكن لا يدري أن هذا مخلوق خلقه الله عز وجل لحكمة منه سبحانه، ولنفع أراده الله سبحانه، أنت اطلعت عليه أو لم تطلع عليه، فإن الله هو عالم الغيب والشهادة سبحانه وتعالى، فالإنسان يحتاج إلى هذا الشيء، وإذا قضى عليه سيجد أنه خسر أشياء أخرى من ورائه، فهذا العنكبوت يقضي على أشياء كثيرة تؤذي الإنسان، والعنكبوت يتكفل بأمر الله عز وجل بأن يقضي عليها.
كذلك الإنسان ينظر إلى النمل على أنه مؤذ فيزيله ويبعده، والله عز وجل يخلق الشيء لحكمة من الحكم سبحانه تبارك وتعالى، وينهانا النبي ﷺ عن قتل النمل، ويقول العلماء: إن هذه النملة من فوائدها التوازن البيئي، فيقضي على أعداء للإنسان بحيث يأكلها، ويقضي على أشياء من فطريات تصيب طعام الإنسان فتؤذيه، ولعل عدم وجود هذا النمل يفسد على الإنسان أطعمة كثيرة جداً، كان النمل سبباً في أنه يقضي على ما يتلف هذه الأطعمة.
وقد ذكرنا أن أهل اليمن يأتون بالنمل من الغابات، يقطعون فروع الشجر المليئة بالنمل وينقلونها على ظهور الجمال إلى الحدائق التي فيها البرتقال واليوسفي وغيرها من الفواكه؛ وذلك لأجل أن يقضي النمل على أشياء من فطريات موجودة في هذه الأشجار التي تؤذي الإنسان وتفسد عليه الفواكه، فالنمل يقضي على أعداء هذه الفواكه فيستفيد الإنسان من طعامه وشرابه.
فهذه حكم عظيمة من حكم الله سبحانه، والإنسان قد يعرف بعضها، وقد يغيب منه الكثير من هذه الأشياء فيقول: لماذا خلق الله عز وجل هذا الشيء؟ والله يقول: (لا يسأل عما يفعل) سبحانه تبارك وتعالى، فلا تسأل الله عز وجل لماذا خلقت؟! وإنما تقول: ﴿سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ﴾ [البقرة: ٢٨٥] فالله هو الذي أحسن كل شيء خلقه.
ورد أن عبد الله بن مسعود صعد إلى شجرة من أشجار الأراك يجني من ثمارها للنبي ﷺ فنظر إليه الصحابة وضحكوا، فقال النبي ﷺ لهم: (علام تضحكون؟ قالوا: نعجب من دقة ساقيه) عبد الله بن مسعود كان قصيراً ونحيفاً جداً، فتعجب الصحابة من نحافته وضحكوا، فالنبي ﷺ أخبرهم أن خلق الله كله حسن سبحانه تبارك وتعالى، وأخبرهم لعل هذه القدم التي تنظرون إلى نحافتها أثقل من جبل أحد.
رجل آخر جاء إلى النبي ﷺ وقد لبس ثوباً يجره على الأرض، فأمره برفع ثوبه إلى أنصاف ساقيه، فالرجل قال للنبي صلى الله عليه وسلم: إني حمش الساقين أي: فيها شيء من الاعوجاج، فكان جواب النبي صلى الله عليه وسلم: (كل خلق الله حسن) خلق رجليك نحيفة أو معوجة فكل ما خلقه الله فهو حسن، افعل ما أمرك الله به من ألا تجعل ثوبك سابغاً، فإن الله لا يقبل صلاة إنسان قد أطال ثوبه حتى وصل إلى الأرض.
الله ﴿الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ﴾ [السجدة: ٧] سبحانه تبارك وتعالى، والله هو الذي بدأ خلق الإنسان من طين، وأصل الإنسان هو آدم على نبينا وعليه الصلاة والسلام، وآدم خلق من طين، فبدأ خلق الإنسان من طين بعد أن كان عدماً، وخلق الله من آدم هذا الإنسان الذي يخاصم ويجادل ربه سبحانه تبارك وتعالى بالباطل، قال: ﴿وَبَدَأَ خَلْقَ الإِنسَانِ مِنْ طِينٍ﴾ [السجدة: ٧] ثم جعل نسل هذا الإنسان الذي هو آدم على نبينا وعليه الصلاة والسلام من سلالة من ماء مهين.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.